دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته ترجف بوادره، وترتعد فرائسه، قد أخذه هلع ما رأى مما لم يعهد بشر رؤيته، ولم يسبق له ذكر عند أحد في زمانه مر به فيتخيله، يحمل الصورة التي أهالته والفعل الذي اعترك الملك به قلبه وجوارحه، فيعمد بكل هذا طارحاً إياه بين يدي زوجه، طالباً العون منها، والتخفيف عنه، وقد ساندته زوجه السيدة خديجة رضي الله عنها أيما مساندة، وجمعت من القوة الفائقة هنا ما تخفف من خلالها مؤنته، وتسكن بها روعته، وقد نجحت في جمع شوارد جميل الخصال، وعظيم التكوين، وسلامة الطريق، وصفاء الفطرة مع دماثة الأخلاق، ما يَقّنت به قلبه، وسَكّنت من خلاله جوارحه، وأوقدت تذكيراً جذوة وعيه وفكره، ونقلته من ميدان الخوف إلى ميدان البشريات، «فَقَالَتْ لَهُ: كَلَّا أَبْشِرْ، فَوَاللهِ: لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ».
وهذه وقفة عظيمة لا تُنسى لأم المؤمنين أبداً، ووفاء حمله النبي الأمين صلى الله عليه وسلم لها، وظل بفعاله مثنياً عليها، جاهراً به، وقد ظلت الرواية الحديثية معلنة لموقفها، مقدمة إياها في مطالع المصنفات والمدونات لفعلها ومؤازرتها.
لكن هنا وقفة أخرى جديرة بالذكر، مهمة في الدلالة، بطلها رجل كبير السن، بصير النظر، قعيد البيت، قد غشيته صوارف الزمن وأهزلته سُنة الدهر وأراذل العمر، وقفة تبث في روع كل مخذل وفاتر وقعيد من أبناء الأمة الإسلامية عن نصرة أهل الحق والخير وأصحاب القضية؛ إنها وقفة ورقة بن نوفل، فماذا قدم من وقفات للحق وأصحاب القضية ممثلاً في نبي هذه الأمة، وما ينبغي أن نتعلمه ونقفه في هذا الزمن مع كل صاحب حق وقضية وأرض؟!
أولاً: الاستماع الكامل له النابع من الحضور التام معه، إن أول ما ينبغي أن نستحضره من وقفة ورقة بن نوفل هذا الاستماع الكامل له، الدال على تمام الحضور والاهتمام بالنبي صلى الله عليه وسلم، مع ما يحمل من أثقال الجسد وأعذار الخلقة؛ إذ إن أول ما يجب أن يصرف إلى صاحب الحق ومتوجس الخوف مما دخل عليه وألمَّ به هو أن يجد من يسمعه ويعيه جوارحه وكليته ويحضر في مجلسه بحضور تام يستوفي من خلاله تهدئة روعه وتأمين خوفه، وقد أخذ بقول زوجه: «اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ»، فختم على كلامها بختمه قائلاً: ابْنَ أَخِي، مَا تَرَى؟
إن أبناء الأمة المنكوبة وأصحاب الأرض المسلوبة الذين رُوِّعوا في بلادهم وقُهروا في أوطانهم، وحُوصروا في ملكهم، أول ما يحتاجونه قبل نصرتهم أن يجدوا من أبناء عقيدتهم ولسانهم من يسمعون لهم ويحضرون حضور ورقة بن نوفل الكامل معهم، إذ بهذه الخطوة تخرج علامات وانطباعات تشجع على البث الكامل، وتشعر بالتفاعل الحي، وتوقظ جذوة النصرة الأولى المتوالدة لهم، وغياب هذا مدعاة لحسرات، ومنذر بالنكبات المتواليات، سياطها أشد من عدوهم عليهم، ومقهر لعزيمتهم، ومفرغ لساحتهم.
ثانياً: تسخير طاقاته وعلمه ومعارفه في خدمة النبي صلى الله عليه وسلم: هذه وقفة ورقة بن نوفل الثانية التي قدمها للنبي صلى الله عليه وسلم في نصرته وتأمينه أن سخر له كل معارفه وطاقاته وعلمه الذي حصله وجمعه؛ فأخرج له من دفاتر علمه وتجارب معارفه وحياته واطلاعاته ما يوضح له حقائق الحال، ويرسم من خلالها مآلات الأمور، فقد كان «يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ، فَكَتَبَ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْإِنْجِيلِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ»، وهذه وقفة أخرى لمن يملك شيئاً ولو كان بسيطاً يستطيع أن ينصر به خائفاً ومفزعاً، فيجمع ما يملك في سبيل تأمينه والشد من أزره وعزيمته.
ثالثاً: إخباره للنبي صلى الله عليه وسلم بالسنن الكونية الملازمة لخروجه وتصدره وموقفه: وهو إخبار يكشف له طبيعة الطريق، ويرسم له صور المعاملات، ويعلمه بصعوبة البدايات، وأن من مترادفات الحق والحقيقة الابتلاءات التي ستمر بها حتى تضع رحلك في قيادة الدنيا، وتمكين الأرض، وهذا يجعل الاستقبال لما يقدم عليه أيسر له، ومتوقعاً حدوثه؛ فلا تربكه المفاجأة، وأكثر استعداداً وتخطيطاً في استقباله عندما قال له: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟»، فَقَالَ وَرَقَةُ: «نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ».
رابعاً: التحسر على ضعف القوة المادية بتعذر ما طرأ عليه من سنن الله في خلقه: إن أول ما ترجاه ورقة بن نوفل بعد أن كشف للنبي صلى الله عليه وسلم أن الذي جاءه هو الناموس (جبريل عليه السلام) الذي جاء لموسى والأنبياء جميعاً، انتقل بذهنه إلى أرض النصرة والمؤازرة له، لكنه تذكر ما وصل إليه وطرأ عليه من ضعف وشيخوخة أفقدته القوة المادية والطاقة الشبابية، لا لمتعه الدنيوية ولا لبناء مجده الشخصي، بل ليسخرها لنبي هذا الزمان، والحق وأصحابه معه، فتكون في خدمتهم، فأعلن تحسره وضعفه، قائلاً: «يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، أَكُونَ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ»، وهذا الإعلان له دلالات عظيمة:
فهو أولاً: إعلان يصدع به صاحب الكبر والشيخ القاعد على مسامع ووجدان من كان جذعاً وشاباً وعنده من الإمكانات والقوة ما ينصر به صاحب الحق من منطلق قوته ومنعته ألا يتخلف ولا يتشبه بالكبير القعيد.
وثانياً: ليؤكد أن أصحاب الحقوق والقضايا الأصيلة يجب أن تكون لهم قوة يستندون إليها، وشباب يرتكزون عليهم، فهم مادة الإسلام وزخر الأمة والرسالة يحتم وجودهم، يصدق عليهم قوله: عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الدِّينِ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: «بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ» (رواه أحمد).
وثالثاً: يسمع من لجأ إليه وطالب العون منه ما يثبت أركانه ويقوي دعائمه من جهة، ومن أخرى ليؤكد وإن فاتته الأولى لما حل به فلن تفوته الثانية لما يقدر عليه وهي نصرته بلسانه وعلمه بقوله: «وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ، أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا»، نصراً بما حمله من بقية طاقة وإرادة وإمكانية متاحة.
إن وقفة ورقة بن نوفل تحتاج منا أن نبثها فينا لنصرة كل أصحاب الحقوق، وتستدعي فينا إيقاظ نخوته وهو الذي لم يكن بعد اختلط بتعاليم هذا الدين، ولم يعرف إشراقات منهجه الذي لا شك ستزيده وقفات ومواقف عظيمة ينصر هذا الدين ويطمئن من خلالها الخائفون، ويفتح نافذة إلى أصحاب الملاذ بمزيد دعم ومؤازرة ونصرة.
لكن «لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ»، نعم توفي وقد قدم ما يستطيع تقديمه، وأخرج نبي الله صلى الله عليه وسلم من بيته بوجه غير الذي جاء به، وثبته بما استطاع أن يبثه من دعائم النصرة وبيان الطريق وبشارة المنتهى.