انطلقت سفينة الشام مبحرة، تمخر عباب البحار، وتصارع أمواجاً متلاطمة كالجبال، يتبع بعضها بعضاً، في سلسلة متتالية عنيفة الدفع، قوية الضخ، أمواج من المتربصين لا يعلمهم إلا الله تعالى، ينتظرون ثغرة هنا أو هناك ليمارسوا هوايتهم المعتادة في كل الثورات، نعم يتربصون ليمارسوا التخذيل والإشغال والإلهاء عبر صناعة القضايا الهامشية والمعارك الكلامية والتجريف الإعلامي بالقنابل الإعلانية، مستخدمين في ذلك شخصيات مصنوعة وفق معايير دولية في مصانع النتوءات البشرية والأشباح الليلية القابلة للتشكل بجميع الأشكال وفق مقتضيات الأحوال ومتغيرات الأحداث!
مثلث برمودا
تبحر السفينة وتضربها أمواج الفتن من كل مكان، ومع كل موجة جديدة تسمع أصواتاً تملأ الآفاق، فمنهم من يرفع عقيرته بالدولة المدنية وهو لا يعرف معالمها، ومنهم من ينادي بالدولة الدينية وهو جاهل بمنطلقاتها، ومنهم من يرفع لواء الطائفية ويصرخ بالحقوق التاريخية، ومنهم من ينادي بمقاطعة الغرب نهائياً، وآخر يرتمي في أحضانه تماماً، ومنهم من يطالب بإعلان الحرب على الكيان الغاصب غداً، وآخر يرشد بتطبيع العلاقات معه، وآخر ينادي بالمسارعة لإعلان الشريعة الإسلامية ومبايعة من يراه خليفة تجب مبايعته.. إلخ.
كل تلك الترهات والدوامات المصنعة التي تهدف إلى إحداث «مثلث برمودا السوري» ليهلك الناس فيه دون أن يعلموا سبب دورانهم، أو حيثيات ضياعهم وحقيقة فقدهم، مثلث لا يدري أحد حقيقته، لكنهم يرون آثار كوارثه ومظاهر مهالكه!
الأمواج الخارجية
هناك أيضاً أمواج خارجية كالجبال، حيث تتسابق المنظمات الدولية في إثارتها، بداية من «حقوق المرأة» وتفاصيل تلك الكذبة الكبرى والفرية العظمى والدعاية المفضوحة، إلى «حقوق الطوائف» -حتى وإن كانوا عشرة أفراد- وإثارة النزاعات الطائفية والقومية والدينية.
تطرح هذه المتطلبات كشرط لدعم الثورة، مقرونة باشتراطات مثل دعم الشذوذ والمثلية، والمطالبة بالتوقيع على اتفاقيات «الجندر» و«سيداو» وغيرهما من مؤتمرات التجريف والتحريف والتخريف.
ثم هناك التدخل الدولي الصارخ في صياغة مناهج تعليمية تتوافق مع معاييرهم، وتخدم ضلالهم، وتسوق قيمهم، إدراكاً منهم أن تلك المناهج والمنظومة التعليمية بأسرها من أخطر الوسائل في تشكيل هوية الأجيال وصبغها بالهوية الغربية.
أمواج الأطماع الإقليمية
تتلاطم الأمواج بتسارع بعض الأنظمة العربية لاحتواء المشهد السوري، كل طرف يحاول أن يمسك بالدفة يريدها عوجاً، ليحاصر فكرة التحرر، ويئد فكرة الثورة، وتسعى لاستيعاب الإدارة الجديدة بمنهجياتها المعهودة، وإمكاناتها الهائلة، وإغراءاتها المثيرة، وخبرتها الطويلة في الاحتواء والإفشال.
إن هذه الأنظمة هي نفسها التي كانت في الشهر الأخير من حكم الطاغية تستضيفه في مؤتمراتها، وتتيح له التحدث في منصاتها، وتبوئه مقاعد الصدارة، وتمد له يد التعاون دون أي مراعاة لشعب تم تهجيره وتدميره وتجويعه وتعذيبه!
ما الذي تغير بين عشية وضحاها؟ إنها العقارب ذاتها، والحيات المتلونة في أشكالها القبيحة المتنوعة، والقاسم المشترك لها هو تسميم الأجواء، وإشاعة الفتن، وإثارة العواصف، وقطع الطريق على محاولات النهوض والاستقرار، حتى لا تظهر سوءاتهم وتكشف عوراتهم، ويفضح تخلفهم، ويرى الناس خيانتهم!
الفكر المتطرف
لا يخفى على أحد أن هناك مجموعات وتيارات ورموز داخل المجتمع السوري، بل ربما داخل منظومة الفصائل نفسها ما زالت تحمل الفكر المتشدد اللقيط، ورأسه معبأة بالتكفير والتفجير أكثر من الرصاصات التي في حوزته، وتلك الأفكار والتوجهات لا تخدم إلا المحتل الآثم والقوى الدولية المتربصة، ما يتطلب جهوداً جبارة لترشيدها، ومحاولة توجيه طاقتها إلى ما ينفعها وينفع وطنها وأمتها، وليس ذلك بعزيز، فإن أكثرها لا ينقصه الإخلاص، بل أوتي من الخلل الفكري، والضعف العلمي، والعاطفة العمياء.
التطلعات الشعبية
لا يمكن أن تتجاهل السفينة أمواج التطلعات الشعبية، التي تتمثل في تطلعات الشعوب السريعة إلى الرفاهية والسلامة والتعويض عن الفقد دون بذل الجهد اللازم، وانتظار الوقت المناسب، التي تعد من أخطر الآفات التي تعترض الثورات، كما أن التطلعات الحزبية والفردية إلى مواقع القيادة والتأثير، وحظ النفس، هي من أبرز عوامل المشاحنة واستجلاب الأحقاد؛ ما يمهد الطريق للصوص الثورات لتغيير المسار وزرع الفتن وعرقلة المسيرة.
معينات لمواجهة أمواج الباطل
هناك بعض المعينات يمكن الإفادة منها في صد هجمات المتربصين، وإغلاق المنافذ التي يتسللون منها إلى داخل سفينة الثورة، ومحاولة إغراقها في طوفان الباطل، نذكر منها ما يلي:
1- الصراع مع الباطل مستمر:
الصراع مع الباطل لم ولن يتوقف، فلا تُلقِ سلاحك ولا تتطلع إلى استراحة طويلة، فلا تظن أن القوى الدولية التي شاركت في التغطية على قتل مئات الآلاف وتشريد الملايين وتدمير البلاد قد استقام أمرها أو تابت توبة نصوحاً، قال الله تعالى: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ) (البقرة: 251)، وقال تعالى: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ) (البقرة: 120).
2- الزمن ليس دائماً جزءاً من العلاج:
قد يكون مرور الزمن في بعض الأحيان سبباً لتفاقم المرض واستفحاله، ففي كل لحظة تمر، يحاول المتربصون التمدد في أي شبر فارغ، هناك صراع محموم وأموال طائلة تضخ لملء الفراغات؛ تربوياً وتعليمياً وإعلامياً وفكرياً واقتصادياً، فلا مجال للتسويف، فإن ما تقوم بغرسه اليوم قد يستحيل غرسه غداً، وما يجوز فعله اليوم قد يكون حراماً غداً!
3- المجتمع السوري هو الثروة الحقيقية:
ينبغي للمفكرين والدعاة والعلماء أن يهرعوا من كل مكان على وجه الأرض ويعودوا إلى سورية للقيام بواجب الوقت وفريضة الساعة، لتحصين الشعب وحمايته، والتترس معه في خندق الثبات والوعي والإدراك، ليكون القوة الصلبة في مواجهة التحديات.
4- إدراك معالم الحكم الرشيد في القرآن:
إن الحكم الرشيد الذي مثل له القرآن بنموذج ذي القرنين كان مرتكزاً على 3 مبادئ أساسية:
أولها: امتلاك ميزان العدالة: وميزان العدالة يتمثل في القدرة على معاقبة المتمرد الظالم وإثابة الصالح الطائع، فمن لا يملك معاقبة الظالم وإثابة المحسن فلا يصلح لإقامة حكم رشيد، قال تعالى على لسان ذي القرنين، مبيناً امتلاكه لذلك الميزان في أول انطلاقته، ليكون لجهده الأثر الفاعل ولقيادته ثمرة التمكين الراشدة: (أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً {87} وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً) (الكهف).
ثانياً: الاستغناء عن الدعم المشروط: لا مجال لإقامة حكم رشيد في الوقت الذي تعتمد فيه المنظومة الحاكمة الاستغناء على أجهزة التنفس الصناعي، المتمثلة في تلقي الهبات والمعونات، فالدول لا تنهض بتلك الوسائل، بل ترتقي باستنهاض قوتها وإمكاناتها واستثمار اللحظة الراهنة في انطلاقة مباركة، معتمدة في كل ذلك على الله تعالى، ثم استغلال ما يتاح من أسباب ليس بالقليل بإذن الله تعالى.
ثالثاً: استثمار الإمكانات وتحويل الطاقات المبعثرة إلى مبادرات بناءة: وذلك بالعمل على استثمار طاقات الأمة وتفعيلها بدلاً من الإنابة عنها أو التحكم فيها، فالراشد لا يريد أتباعاً جهلاء ولا حشوداً تافهة، بل يبحث عن حملة الرسالة، ويربي في الأمة الجدية والفاعلية والمبادرة.
5- دور العلماء والدعاة:
على أهل العلم الأفاضل والدعاة الأكارم والمفكرين النابهين أن يسارعوا باللحاق بالركب، ولا يكتفوا بالتقاط الصور التذكارية والعودة الى مهجرهم أو أعمالهم ومشاريعهم الخاصة، بل عليهم أن يتجذروا في الأرض، ويحشدوا الناس ويحصنوهم من آثار التيارات الوافدة، ويعمقوا فيهم الانتماء للإسلام؛ فيرشِّدوا الخطوات ويُعِدوا الأجيال، ويتحققوا بقول الله تعالى: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج: 41).
6- الاستعانة بالعلماء الراسخين لضبط الفتاوى وتوجيه القرارات:
على الإدارة القائمة التترس بالعلماء الثقات في كل التخصصات، وخاصة في الجانب الشرعي، وأن تدرك أن النجاح العسكري لا يكفي لقيادة أمة واستنهاض قوتها، وأن ما يمتلكه بعض القادة من معلومات ومعارف وقناعات دينية أو كفاءة وعزيمة لا يؤهلهم بحال للإفتاء أو التوجيه أو التأصيل.
وسورية، بفضل الله تعالى، زاخرة بالعلماء الثقات من شتى المدارس العلمية والتخصصات الشرعية والتوجهات الفكرية الوسطية؛ ليرشدوا الخطوات ويصدقوا النصح، ويعينوا بالرأي وفقاً لمقاصد الشريعة التي تدعو إلى التوجيه الحكيم؛ ليس فقط في الميدان المادي فحسب، ولكن على مستوى القلوب والعقول أيضاً.
وأخيراً، فإن الطريق طويل، لكن اليقين بالله والعمل الجماعي والرؤية الواضحة يمكن أن تقود السفينة إلى بر الأمان، والله متم نوره ولو كره الكافرون.