في زمن تتعرض فيه الأمة الإسلامية والعربية لأشد المحن، تخرج علينا بعض الأصوات التي تستكثر على المقاومة الفلسطينية صمودها، وتتساءل بشكل يثير الاستغراب: أي نصر حققته «حماس» وقد تدمرت غزة بالكامل وقتل 46 ألف شخص؟!
لعل هذه الأصوات قد غاب عنها جوهر الصراع مع الاحتلال «الإسرائيلي»، وهو أنه ليس صراعاً على أرض أو نفوذ فقط، بل صراع بين حق وباطل، بين إرادة التحرر ومشروع الاحتلال.
التاريخ الإسلامي مليء بمعارك عظيمة تكبد فيها المسلمون خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، ومع ذلك سُجلت في صفحات التاريخ كنماذج للنصر والثبات، من أبرز هذه المعارك، غزوة «أُحد»، حيث فقَدَ المسلمون 70 شهيداً، وأصيب عدد كبير من الصحابة بجراح بليغة، إلا أنها كانت نقطة تحول في بناء الأمة الإسلامية، فقد أثبتت المعركة أن الهزيمة المادية ليست نهاية الطريق، وإنما درس يعزز مناعة الأمة ويقوي إرادتها.
كذلك في غزوة «مؤتة»، واجه المسلمون جيش الروم الضخم، وكانت خسائرهم كبيرة مقارنة بعددهم الصغير، ومع ذلك سجل التاريخ شجاعة قادتهم الذين استشهدوا واحداً تلو الآخر، وثبات خالد بن الوليد الذي قاد انسحاباً إستراتيجياً أنقذ الجيش المسلم من الفناء.
وفي غزوة «حنين»، حين واجه المسلمون هزيمة أولية بسبب كمين محكم، عادوا للثبات والنصر رغم الخسائر؛ ما يثبت أن النصر الحقيقي يكمن في الثبات بعد المصاعب، وليس في الانتصارات السريعة العابرة.
النصر في المعارك ليس مجرد أرقام تُحصى، وإنما ثبات على المبادئ وقوة في مواجهة الطغيان، والمقاومة الفلسطينية، رغم الحصار والدمار، استطاعت أن تقلب موازين القوة في الصراع مع الاحتلال «الإسرائيلي» بوسائل بسيطة وإرادة صلبة، أثبتت أن آلة الحرب الصهيونية عاجزة عن فرض الاستسلام على شعب أعزل لكنه مؤمن بحقه.
وتدمير غزة ليس إلا دليلاً على فشل الاحتلال أخلاقياً، حيث فضحت كل قنبلة تسقط على غزة ازدواجية معايير العالم، وكشفت زيف الادعاءات الأخلاقية لداعمي الاحتلال، أما الأرواح التي ترتقي فهي وقود النصر، فالشهداء لا يموتون، بل يخلدون كرموز للصمود يُلهِمون أجيالاً قادمة للنضال من أجل الحرية.
من يقف مع الاحتلال «الإسرائيلي» ويبرر جرائمه يتجاهل أن المقاومة ليست خياراً، وإنما واجب على كل أمة محتلة، فالنصر الذي حققته غزة ليس دمار المباني أو سقوط الشهداء، بل في إبقاء القضية حية في ضمير العالم، وأن الاحتلال لم يستطع كسر إرادة المقاومة، وأن الشعوب الحرة لا تستسلم مهما كانت التضحيات، فقياس النصر بالدمار المادي فقط يعكس قصر نظر وقلة فهم لمعنى الصمود، لو كان التاريخ يُكتب بناءً على عدد القتلى فقط، لما كانت معارك الإسلام الكبرى التي خسر فيها المسلمون كثيراً من الأرواح تُعتبر اليوم أمثلة للنصر والبناء.
النصر الحقيقي هو الصمود على المبادئ، ومواجهة الاحتلال مهما بلغت التضحيات، فغزة اليوم ليست مجرد أرض، وإنما رمز للأمة الإسلامية بأكملها، من ينكر صمودها أو يشكك في نصرها، إنما يخون تاريخ أمة صمدت في وجه أعظم الإمبراطوريات، وسجلت أعظم الانتصارات رغم الألم.