الدين الخاتم، والشريعة الخاتمة، والوسطية المطلقة، والأمة الوسط، ويسروا ولا تعسروا، تلك هي أهم معالم التيسير في الشريعة الإسلامية المباركة، التي ارتضاها رب العالمين لعباده في الأرض ليختم بها شرائعه وهو الخالق الذي يعلم ما ينفعهم أو يضرهم.
والمطلع على نصوص الشريعة يجد أنها تتخذ جانب التيسير وتعتمده منهاجاً لها، ولقد وردت النصوص الشرعية تؤكد قيمة التيسير بين الناس، وعدم فتح أبواب للتساؤلات قد تعقد أمراً مباحاً.
يقول الله تعالى في السفر أثناء عبادة الصيام تيسيراً على المسلمين: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: 185)، وقد أتت بعض الشرائع لتؤدب أقوامها بمنع المباح، أو تحريم بعض الحلال فيقول تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) (النساء: 28).
ويقول تعالى في أحكام الوضوء والغسل أن الحكم الشرعي هو عين التيسير على المسلمين لرفع الحرج عنهم حين تندر المياه، أو يكون استعمالها مضراً لجروح أو مرض: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (المائدة: 6)، ومثله قول الله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78).
وفي سقوط التكليف عن العاجزين عن أدائه مثل فريضة الزكاة إن عجز عن إخراجها، وفريضة الصوم إن عجز عن صيامه صحياً أو سفراً، وفريضة الجهاد والحج.. وهكذا، فيقول عز وجل: (لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (التوبة: 91)، فأصل التكليف ما قرره تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: 286).
التيسير على الناس في ظل الهدي النبوي
جاءت السُّنة النبوية لتكون التطبيق العملي لشريعة الله عز وجل، وتأكيداً وتوضيحاً وشرحاً لأحكام الدين، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم سهلاً ليّنا، ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما أو كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وتيسيراً على الناس قال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ» (أخرجه مسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا، وَلَا مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا» (رواه مسلم).
ومن مظاهر تيسير النبي صلى الله عليه وسلم على المسلمين: عن عثمان بن أبي العاص الثقفي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «أُمَّ قومَك»، قال: قلت: يا رسول الله، إني أجد في نفسي شيئًا، قال: «ادنه»، فجلسني بين يديه، ثم وضع كفَّه في صدري بين ثديي، ثم قال: «تحول»، فوضعها في ظهري بين كتفي، ثم قال: «أُمَّ قومَك، فمن أَمَّ قومًا فليُخفِّف؛ فإن فيهم الكبير، وإن فيهم المريض، وإن فيهم الضعيف، وإن فيهم ذا الحاجة، وإذا صلى أحدكم وحده، فليُصلِّ كيف شاء» (أخرجه مسلم).
وعن أبي مسعود الأنصاري، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني لأتأخَّر عن صلاة الصبح من أجل فلان؛ مما يطيل بنا، قال: فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قطُّ أشدَّ مما غضب يومئذٍ، فقال: «يا أيها الناس، إن منكم منفِّرين، فأيكم أمَّ الناس، فليُوجِز؛ فإن من ورائه الكبير، والصغير، وذا الحاجة» (أخرجه البخاري).
وعن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة فقال: «مَنْ هَذِهِ؟» قَالَتْ: فُلَانَةُ، تَذْكُرُ مِنْ صَلَاتِهَا، قَالَ: «مَهْ! عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ؛ فَوَاللَّهِ لَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا»، وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
التيسير من مقاصد الشريعة الإسلامية
أهم ما يتميز به الدين الإسلامي أنه دين سهل التطبيق، يتوافق مع الفطرة السليمة، وتهواه النفس إن هي استقامت، والتكليف فيه على قدر استطاعة المسلم، وإن عجز فقد سقط عنه التكليف، لا تعجيز، ولا قهر، ولا تكفير، والبدع في الدين مرفوضة، وقد قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) (المائدة: 3)، فالدين قد اكتمل، والأمة بشريعتها قائمة إلى يوم الدين، ولا حاجة للتشديد على الناس بما ليس فيه.
والمقصود من الأمر أن الدين كله يسر؛ أي أن أحكامه القائمة هي بالفعل أحكام ميسَّرة وقابلة للتطبيق وفي طاقة الإنسان العادي، شرط أن يستقيم قلبه، وقد فهم البعض مسألة يسر الدين بفهم خاطئ، وحسبوا أنها تعني التخلي عن الأحكام الشرعية بحجة أن الدين يسر، فيتخلى عن بعض الأحكام.