يسعى الناس إلى الكمال، ويرجون الوصول إليه، ولهذا يبحثون عن أفضل الأعمال، وخير مثال في كل مجال، وليس هناك مجال يحقق الإنسان فيه الكمال أفضل من الإيمان، فالإيمان خير ما يتحصن به الإنسان من النيران، ويبلغ به أعلى درجات الجنان، وإن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، وما يزال المؤمن يستزيد من الطاعات حتى يبلغ كمال الإيمان، والكمال هو بلوغ التمام في الأشياء، وخلوها من النقص، ويظهر البحث عن الكمال من خلال السؤال عن أكمل المؤمنين وأحسن الناس وأفضل الأعمال وأحب العبادات إلى الله، وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أكمل المؤمنين إيماناً في بعض الأحاديث، وبيانها فيما يأتي:
1- المجاهد في سبيل الله بنفسه وماله:
روى أبو داود بسند صححه الألباني عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ: أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْمَلُ إِيمَانًا؟ قَالَ: «رَجُلٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَرَجُلٌ يَعْبُدُ اللَّهَ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ قَدْ كُفِيَ النَّاسُ شَرَّهُ»، ذلك أن الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام.
وفي مسند أحمد، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْجِهَادُ عَمُودُ الْإِسْلَامِ، وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ»، وفي رواية: أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لسيدنا معاذ بن جبل: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ؟»، فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ».
2- العابد الذي يكفي الناس شره وأذاه:
في الحديث الشريف الذي سئل فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن أكمل المؤمنين، بدأ الجواب بالمجاهد في سبيل الله، ثم قال: «وَرَجُلٌ يَعْبُدُ اللَّهَ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ قَدْ كُفِيَ النَّاسُ شَرَّهُ»، ففي الحديث دعوة إلى إحسان العبادة، فإنها سبيل إلى كمال الإيمان، وفيه أيضاً حث على كف الأذى عن الناس، فالمؤمن يتميز بكف أذاه عن الناس.
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أكد أن الإيمان يدفع صاحبه إلى كف الأذى، ففي صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ»، كما لفت النظر إلى أن أذى الناس دليل على نقصان الإيمان، ففي صحيح البخاري، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ»، قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ».
وقد يتساءل البعض عن دلالة الحديث على الانعزال في شعب من الشعاب من أجل كفاية أذاه عن الناس، وأن ذلك سبيل إلى كمال الإيمان، ويجاب عنه بأن المراد هو الانعزال في زمن الفتنة التي لا يتبين وجه الحق فيها، أو فيمَنْ لا يصبر على أذَى النَّاس، أو في انعزال السكن والإقامة دون العمل والدعوة، أو الانعزال في حال العبادة وحدها، أما الانعزال بلا داع فلا يحقق كمال الإيمان، بل إنه صلى الله عليه وسلم أكد في الحديث الذي رواه أحمد عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ».
3- أحسن الناس خلقاً:
أكد النبي صلى الله عليه وسلم أن حسن الخلق سبيل إلى كمال الإيمان، ففي مسند أحمد، وسنن أبي داود، عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أن رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا»؛ والمعنى الحقيقي لحسن الخلق ليس في مجرد معرفة الأخلاق الحسنة وتمييزها عن القبيحة، بل في التمسك بكل خلق حسن مع التخلي عن الخلق القبيح.
4- ألطف الناس بأهله:
روى الترمذي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ مِنْ أَكْمَلِ المُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَأَلْطَفُهُمْ بِأَهْلِهِ»، واللطف بالأهل يعني حسن المعاشرة، حيث أمر الله تعالى بذلك في قوله: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء: 19)، وإن ملاطفة الأهل تستلزم إشعارهم بالرحمة والمودة والأنس والأمن، حتى تنعم الأسرة بالسكينة والسعادة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، حيث روى ابن ماجه في سننه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي».
5- من أحب وأبغض وأعطى ومنع لله:
روى أبو داود في سننه عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ»، ففي الحديث بيان لطريق استكمال الإيمان، وهو إخلاص العمل لله تعالى، سواء كان ذلك في العطاء أم المنع، في الحب أم البغض، إذ المسلم لا يندفع إلى عمل إلا إذا قصد به وجه الله تعالى، وفي هذا تأكيد على أهمية النية في الأعمال، فالأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى.