من الحِكَم الرائعة التي تبهج القلب وتنير الدرب قولهم: من الحماقة أن تعبر طريقاً للسيارات دون أن تنظر جيداً، والأكثر حمقاً أن تحاول العودة في منتصف الطريق، وحياة الإنسان بها قرارات تحتاج إلى حكمة وحسم في وقت معين يسميها العقلاء مرحلة «اتخاذ القرار»، وهي خطوة مهمة تتوسط النجاح والإخفاق والإقدام والإحجام.
وللإنسان حريتان؛ حرية اختيار، وحرية قرار، والقرار إما أن يكون صحيحاً له آثاره وإيجابياته، أو يكون خاطئاً وله سلبياته وتداعياته، والعاقل يستعين بالله تعالى أولاً في جميع شؤونه ثم بمشاورة أهل الصلاح وبعدها العزم والحزم، فمن الكياسة أن تكون بطيئاً في المشاورة سريعاً في التنفيذ، وإياك والتردد والتذبذب في منتصف الطريق، فإن عواقبه وخيمة وثماره مريرة، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران: 159).
يقول ابن جرير، في تفسيرها: «فإذا صح عزمك بتثبيتنا إياك وتسديدنا لك فيما نابك وحزبك من أمر دينك ودنياك، فامض لما أمرناك به على ما أمرناك به، وافق ذلك آراء أصحابك وما أشاروا به عليك أو خالفها، وتوكل فيما تأتي من أمورك وتدع وتحاول أو تزاول على ربك فثق به في كل ذلك، وارض بقضائه في جميعه، دون آراء سائر خلقه ومعونتهم فإن الله يحب المتوكلين»(1).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ، وإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ، فلا تَقُلْ: لو أَنِّي فَعَلْتُ كانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَما شَاءَ فَعَلَ؛ فإنَّ لو تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ»(2).
من وحي السيرة النبوية
السيرة النبوية كالمشكاة المنيرة يتألق ضوؤها ذات اليمين وذات الشمال، ويفوح عبق أريجها في كل مجال، ومما يستأنس به في هذا المقال موقف عياش بن أبي ربيعة وهجرته مع الفاروق صاحب أفضل الخصال، ونقف على بيت القصيد في الحوار الذي دار بين أبي جهل بن هشام، والحارث بن هشام، إلى عياش بن أبي ربيعة، وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما.
خرج أبو جهل حتى قدم علينا المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فكلماه وقالا: إن أمك قد نذرت ألا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك، فرق لها، فقلت له: يا عياش، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت، قال: فقال: أبر قسم أمي، ولي هنالك مال فآخذه.
قال: فقلت: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما، قال: فأبى عليَّ إلا أن يخرج معهما؛ فلما أبى إلا ذلك، قال: قلت له: أما إذ قد فعلت ما فعلت، فخذ ناقتي هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب، فانج عليها، فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال له أبو جهل: يا ابن أخي، والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟ قال: بلى، قال: فأناخ، وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه، فأوثقاه وربطاه، ثم دخلا به مكة، وفتناه فافتتن»(3).
لقد كانت الهجرة امتحاناً عسيراً لأقدار الرجال، وميداناً فسيحاً لنزال الأبطال، فماذا في الموقف من معان إيمانية وتربوية يتعلم منها الأجيال؟
الإيحاء الكاذب
الدهاء والخداع أول خيوط المؤامرة التي لجأ إليها أبو جهل مع أخيه ليهز عاطفته من الأعماق هزاً عنيفاً، فلم يحدثه عن الهجرة لوطنه الجديد، ولم يحاوره بالتهديد والوعيد، وإنما ضرب على وتر الأمومة، فصور له أمه في أسوأ حالاتها، وأن الموت يطوي عمرها، وأن حياتها مرهونة برؤية ولدها ومهجة قلبها، وهذا إيحاء مراوغ ووهم مخادع؛ «وما أكثر الذين يسقطون في الشراك المنصوبة تحت ضغط الإيحاء حين يتسرب ناس كالخفافيش في ظلمة الليل، فيلمسون القلب الذى يفتح أبوابه للطارق الماهر بلا مناقشة، بل ربما اختلقوا المعاذير تبريراً للهجوم الغادر في غيبة العقل الواعي الذي يتحاشى المغرضون إدخاله طرفاً في النزاع حتى لا ينكشف المخبوء»(4).
صوت العقل
الفاروق رضي الله عنه كان يدرك عمق المؤامرة وأبعادها المضمرة؛ فحذر صاحبه من الفتنة الواقعة، فحرك فيه صوت العقل؛ لأن أساليب الاستعطاف فيها الحتف ونهاية المطاف، وكم دمرت العواطف من قرارات حاسمة وفاصلة وبعثرتها كالريح في يوم عاصف! وإنك لتعجب من رجاحة عقل الفاروق في هذه الكلمات البليغات، ما يريد والله إلا فتنتك عن دينك فاحذره، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت، ولو اشتد عليها الحر لاستظلت، خذ نصف مالي ولا ترجع معه، خذ ناقتي ذلول نجيبة؛ «فقد حذره من اللذة العاجلة التي ستذهب بمتعة الأبد، وبصّره بعمق المؤامرة المستهدفة دينه ثم ما يتذرع به الباطل الذي يجيش جيوشاً من الأوهام ليحاربه بها في غير ميدان، فما قاله عن أمه أوهام، والمخاوف التي يرمي بها في سماء حياته أضغاث أحلام»(5).
لصوص الطاقة
بدأت رحلة الانتكاس لما أصر عياش على الرجوع مع أخيه الذي نجح في سرقته بهذا القول المعسول والوعد المبذول، وجاءت نصيحة الفاروق كأنها أصداء بئر خاوية أمام هذه الإرادة المسترخية؛ «أعود فأبر أمي، ولي هناك أموال، وأرجع إليكم»، وسلم نفسه إلى لصوص الطاقة الذين يضعفون الإرادة ويقتلون العزيمة (القلق والإحباط وتشتت الذهن)، وهذه علل يتم علاجها بالثقة بالله أولاً، والأخذ بالأسباب والتوكل على الله إحياء لقوة الإرادة ومضاء العزيمة.
يقول الإمام ابن القيم: النفس فيها قوتان؛ قوة الإقدام، وقوة الإحجام، وهي دائماً تتردد بين أحكام هاتين القوتين، فتقدم على ما تحبه وتحجم عما تكرهه، والدين كله إقدام وإحجام؛ إقدام على طاعة، وإحجام عن معاصي الله، وكل منهما لا يمكن حصوله إلا بالصبر، فحقيقة الصبر أن يجعل قوة الإقدام مصروفة إلى ما ينفعه، وقوة الإحجام إمساكاً عما يضره»(6)، ولصدق الرجل وحسن نيته مرت الفتنة بسلام، وعاد إلى صفوف أهل الإيمان، واستشهد في يوم «اليرموك» مع السابقين الأولين.
________________________
(1) تفسير الطبري (7/ 343).
(2) رواه مسلم (2664).
(3) السيرة النبوية لابن هشام (1/ 475).
(4) تأملات في السيرة النبوية، ص 118.
(5) المرجع السابق، ص 118-119.
(6) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (1/ 109).