يحمل مشهد الهدايا التذكارية التي قدمتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) للأسيرات «الإسرائيليات» الثلاث، اللواتي أُفرج عنهن قبل أيام، دلالات بالغة الأهمية، ورسائل إنسانية، تفوق في رمزيتها أي إشارات سياسية.
قد لا أكون مبالغاً إذا قلت: إن مشهد الهدايا كان لفتة نوعية للمقاومة الفلسطينية، تثبت به رقيها، وسمو أخلاقها، واعتزازها بقيمة الإنسان، حتى لو كان عدواً أو أسيراً، مقارنة بمحتل غاشم قتل الرضيع والطفل والمرأة والشيخ والمريض، وأقدم على حرق الأخضر واليابس، وهدم المسجد والكنيسة والمدرسة والمشفى.
بعد أكثر من 15 شهراً من الحرب، و471 يوماً من عمليات الإبادة والقصف والتدمير، وأكثر من 150 ألف شهيد وجريح، وحجم ركام يقدر بنحو 40 مليون طن، وأكوام من الجثث المتحللة والأشلاء الممزقة، ثم أنت تقدم الهدايا لخصمك، لماذا؟ وكيف؟ وماذا تريد؟!
إن حقائب المفاجآت الساخرة، بحسب وصف الصحافة «الإسرائيلية»، كانت أشبه بعلامة انتصار معنوي للفلسطيني، وإشارة إلى أنه لم يفقد تماسكه ورباطة جأشه، لا تزال لديه القدرة على الإبداع، والتفكير خارج الصندوق، بل وإبهار العدو بكل ما هو جديد.
داخل الحقائب كانت هناك خريطة لقطاع غزة، وصور لذكريات الأسيرات من أيام الأسر، وشهادة إفراج بعنوان «قرار إفراج عن أسير»، تضمنت اسم الأسير والعمر وتاريخ الأسر وتاريخ الولادة وتاريخ الإفراج، ممهورة بختم «كتائب القسام».
الفلسطيني انتصر بمشهد الهدايا؛ إنسانياً ونفسياً ومعنوياً وأدبياً وعسكرياً، هو يصر على إذلال المحتل، وكشف إجرامه، وحرق أعصابه، وفي الوقت ذاته، يبعث برسالة إيجابية لأسراه، مفادها، إنسانيتي تنتصر عليكم، رغم احتلالكم أرضي، وتدنيس مقدساتي، وتدمير شعبي.
أنا إنسان، العنوان الأبرز لما فعلته المقاومة، وهو ما يتجاوز ما يقال عن كون الخطوة تكتيكاً إستراتيجياً، وحرباً إعلامية، ورسائل سياسية، ليكون المشهد الذي شاهده العالم خير دليل على نبل ومروءة وشهامة الإنسان الفلسطيني.
ما تحمله حقيبة الهدايا من رسائل دعوية، وظهور الأسيرات في أفضل صورة ممكنة، بثياب نظيفة، وضفائر معقودة، وحالة صحية جيدة، يؤكد أن المجاهد الفلسطيني لم ينس إسلامه ودينه، وسُنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، في معاملة الأسرى، وصون حقوقه، وإكرامه، وتوفير كسوته، وعدم تجويعه، أو تعذيبه، أو إهانته، أو إذلاله، ومعاملته بالحسنى.
ومن الحسنى، ما فعلته «القسام» بتقديم الهدايا لإنسان، قد يؤمل في إسلامه، أو تحييده، أو دفعه إلى التفكير في مواقفه العدائية ضد شعب هو صاحب هذه الأرض، أو على أقل تقدير، تذكيره بما لاقاه في الأسر من معاملة طيبة، من أناس، تقول آلة الدعاية الصهيونية الغربية: إنهم متطرفون وإرهابيون، فإذا بهم يقدمون الهدايا لأسراهم.
تؤكد حقيبة الهدايا التذكارية التزام المقاومة الفلسطينية بالمواثيق الدولية ومبادئ القانون الدولي خلال الحروب والصراعات، واتفاقية جنيف بشأن معاملة أسرى الحرب، وغيرها من قوانين وأعراف، لم يلتزم بها العدو الصهيوني، وحكومته الفاشية، المتورطة في جرائم حرب ضد الإنسانية.
ولعل مشهد ابتسامة الأسيرات أثناء خروجهن من الأسر واستلامهن شهادات التخرج خير دليل على ما لاقينه من معاملة طيبة، وقد ظهرت إحدى الرهينات المفرج عنهن وهي ترتدي طوقاً حول العنق، وعليه العلم الفلسطيني.
هذا الإنسان القادر على صنع تلك اللفتة الطيبة، وابتكار تلك الخطوة، لهو قادر بحق على إعادة الإعمار من جديد، وإنبات غزة بالخير، وتضميد الجراح، ولململة الشتات، وإزالة أي ركام جاثم على الصدور، ومحو أي أثر للعدوان الغاشم، إذا أتيحت له الظروف، وتوفرت له الموارد.
إن إعادة الإعمار تبدأ بالإنسان، وحقيبة هدايا الأسرى، تؤكد للعالم أجمع أنه أمام جيل عظيم من البشر، ونوعية فريدة من الناس، وجينات نقية من جنس الإنسان، تجمع بين خلق الإسلام، وأصالة العرب، وفضائل الإنسانية، ليؤمن الجميع بحق هؤلاء في تحرير أرضهم، ومقدساتهم، ونيل حريتهم وكرامتهم، دون الحاجة إلى قرارات من مجلس الأمن والأمم المتحدة والجنائية الدولية، لم يستطع حبرها وقف الدم المسال على مدار 471 يوماً!
لقد تجاوز الفلسطينيون بخطى واسعة، ما سطرته علوم الحرب والسياسة والاقتصاد والنفس والاجتماع والتنمية البشرية، من صمود أسطوري، ومقاومة عنيدة، وصبر بطولي، وأمل طموح، وتكتيك نوعي، وإعداد محكم، وقدرة فذة على التخطيط والابتكار والتنفيذ، وأخذ بالأسباب في كل صغيرة وكبيرة، في ملحمة سيخلدها التاريخ، لم ينس القائمون عليها تقديم الهدايا للأسرى.
غزة الأبية، تستحق وقفة جادة وهبّة شعبية وعربية وإسلامية ودولية لإعادة الإعمار، ليس فقط لأنها دُمرت وباتت أنقاضاً وركاماً، بل لأن بها إنساناً، تعاظمت إنسانيته، فانتصر على عدوه، وعلّم العالم بأسره فنون الإنسانية.