يتعرض البعض من الشباب لتجربة السجن المؤلمة، يمرّون خلالها بـ«البوابة السوداء»، التي ترمز إلى الواقع المزري خلفها، فبمجرد تخطي الشاب لهذه البوابة، فقد انضم إلى عالم آخر، يُعرف في الأوراق الرسمية –تجمُّلًا- باسم «هيئة الإصلاح والتهذيب»، لكنه في الحقيقة عالم مخيف، يعاني فيه السجين معاناة كبيرة، وقد يدخل مدانًا بتهمة صغيرة ويخرج مجرمًا شديد الإجرام.
تتنوع الأسباب التي تفضي بالشباب إلى السجن، ما بين أسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية؛ ليجدوا أنفسهم مسجلين في قائمة المجرمين، تأتي في مقدمتها الجنايات والجنح المالية، ثم جرائم الإدمان والمخدرات؛ وهي إما ناتجة عن الفقر والبطالة وانعدام الفرص الاقتصادية، أو لتفكك الأسرة وغياب العائل، أو لانعدام التعليم أو ضعفه؛ بما يمثل ضغوطًا نفسية تزين لصاحبها السلوك الإجرامي، وفي بعض مجتمعاتنا العربية تُرتكب بعض الجرائم لأسباب ثقافية؛ إذ قد يرتكب الشاب الجريمة بغرض إثبات الذات كمفهوم خاطئ عن الرجولة وبروز المكانة الاجتماعية.
أوضاع متردية
تعاني السجون في عدد من البلدان العربية والإسلامية من واقع مرير، دفع منظمات حقوق الإنسان، المحلية والإقليمية والدولية، إلى تصنيفها ضمن قائمة أسوأ السجون في العالم؛ لافتقارها إلى الحدود الدنيا من الحقوق الآدمية، وقد أُشير إلى أن 90% من مباني بعضها يجب هدمها وإعادة تشييدها بما يليق بكرامة الإنسان وإن كان خارجًا على القانون.
وتعاني تلك السجون عمومًا من اكتظاظ يفوق قدرتها الاستيعابية، ومن ثم نقصًا في الخدمات الأساسية كالنوم والطعام، والافتقار إلى معايير النظافة؛ ما يسبب زيادة معدلات التوتر والعنف بين السجناء، في ظل ضعف البرامج التعليمية والمهنية، وغياب الدعمين النفسي والاجتماعي.
وتتردى الرعاية الصحية داخل هذه السجون بما يساعد على تفشي الأمراض المعدية والمزمنة؛ إذ رصدت منظمات حقوقية انتشار أمراض الدرن الرئوي وتليف وتضخم الكبد والطحال وقرحة المعدة والانزلاق الغضروفي وآلام العظام والفقرات وأمراض الأذن وضعف السمع والإبصار وغيرها، ولا يختلف الأمر بالنسبة للنساء والأحداث من حيث ظروف التكدس والإهمال الطبي والعقوبات الإدارية غير المبررة أو التمييز بين المسجونات أو الأطفال المحتجزين في الإصلاحيات ومقار التأديب.
إنسان آخر
فضلًا عن تعزيزها السلوك الإجرامي لدى البعض –كما أشرنا- فإن تجربة السجن قد تعمق مشكلة الثقة بالنفس والشعور بالعزلة، وفي حال تعرّض السجين للعنف أو التحرش داخل محبسه، فإن ذلك يسبب آثارًا نفسية طويلة المدى.
سجلت دراساتٌ القلقَ، وهو منشأ جُلّ الأمراض النفسية، كونه أهم المشكلات المترتبة على السجن، يتبعه الاكتئاب، فالخوف، فالغضب، فالوحدة، وما يستتبعها من معضلات اجتماعية تلازمه بعد ذلك وتلقي بظلالها على حياته الشخصية فيما يخص العائلة والعمل، باعتبار السجن وصمة عار تصعّب اندماجه في المجتمع؛ ما يفسر عودة البعض إلى الجريمة من جديد.
يغادر المسجون «البوابة السوداء» عائدًا إلى منزله، بعد أن قضى العقوبة، متدهور البدن، مثقلًا بعدد من الأمراض الجسدية، كما يعود شخصًا آخر متدهور النفسية، بعدما عانى في محبسه من مصادرة حقه في اتخاذ القرارات، وفي انعدام الخصوصية، وفي الوصم، والخوف المتكرر، والالتزام اليومي بقواعد وواجبات صارمة ورتيبة، وهذه التجربة لا يسلم من أذاها وآثارها إلا القليلون، الذين عبروا عن مشاعرهم بقولهم: إنهم بشر وليسوا آلات، فلا يستطيعون بين عشية وضحاها أن يثقوا بالآخرين، فإن الفترات التي عاشوها داخل الأسوار عمّقت مشاعر الفتور والجفاء لديهم حيال الغير، فضلًا عن قسوة القلب والعزلة.
حالات العوْد
حالة العوْد تعني عودة السجين إلى الجريمة من جديد رغم العقاب، وقد كشفت دراسات ميدانية في أكثر من بلد عربي أن الفئة الأكثر عودة إلى اقتراف أعمال إجرامية هي فئة الشباب، وصلت نسبتها في بعض الدول إلى أكثر من 80% في الفئة العمرية (18 إلى 45 عامًا)، وقرنت هذه الدراسات بين حالة التعليم وقرار العوْد؛ إذ كلما كان المستوى التعليمي مرتفعًا قلَّت نسبة العوْد، والعكس صحيح؛ وكذلك المشكلات الأسرية، والفشل الدراسي، وضعف الإرشاد من الإدمان، وما يتطلبه ذلك من تعديل اللوائح والقوانين المتعلقة بالظاهرة، أو إيجاد بدائل للسجن، كما في النموذج الأردني.
أما أخطر ما يواجهه المسجون السابق فهو «الوصم الاجتماعي»، وهو ما يلقي بالمسؤولية على مؤسسات المجتمع بأسرها لإدماج هؤلاء الشباب وضمان عدم انزلاقهم إلى الإجرام مجددًا؛ بالتخفيف أولًا من آثار السجن عليهم، وتوفير مراكز دعم ومساعدة، وتدشين حملات توعية لتقليل هذا الوصم، وتشجيع المجتمع على قبولهم ليبدؤوا حياة نظيفة من جديد.
وسائل وقائية
كثرت الدراسات التي تطرقت إلى وسائل وقاية الشباب من المرور بـ«البوابة السوداء» وخوض تجربة السجن القاسية؛ مؤكدة تعزيز القيم الأخلاقية، بالتنشئة السليمة القائمة على تحمّل المسؤولية، عن طريق الدعم العاطفي والنفسي، والتحذير من الانخراط مع رفقاء السوء؛ وبتوفير بيئة تعليمية توعوية جيدة، إضافة إلى استيعاب الشباب في أنشطة إيجابية وأعمال تطوعية، وإيجاد فرص عمل مهنية تحد من العوامل المسببة للجريمة، والأهم هو التدخل المبكر في حال وجود مؤشرات خطرة عن انخراط في أنشطة غير مشروعة.
فإذا ما تورّط الشاب فيجب تحسين أوضاع السجون؛ لتفادي الآثار الكارثية على الشاب بعد خروجه، ولا يسلم منها المجتمع للأسف؛ بتقليل الاكتظاظ، وتحسين الظروف المعيشية للسجناء، وإيجاد برامج إصلاحية وتأهيلية جادة، والسماح للمنظمات المختصة بمراقبة أوضاع السجون والعمل بتوصياتها.
وهناك قواعد نموذجية دُنيا اعتمدتها منظمات أممية تضمن سجونًا بلا أخطار مجتمعية، تحترم القيم الأخلاقية، وتراعي الأسس السليمة للمعيشة، ومتطلبات الرعاية الصحية، وألا تُفرض قيود على السجين، وألا يعاقب إلا وفقًا لأحكام القانون والنظام، وأن تُراقب سلوكيات موظفي السجن حيال المسجونين.