لا شك أننا تنفسنا بعض الصعداء مع بدء سريان اتفاق الهدنة في غزة، لكنني لا أستطيع أن أفرح وقد دمرت الحرب الضروس بيوت غزة وشوارعها ومساجدها ومستشفياتها ومدارسها وجامعاتها ومزارعها ومصانعها وأشجارها وذكرياتها، وصار أهلها بين الأطلال، رغم صمودهم الأسطوري، بين قتيل وجريح ومفقود ومشوّه ومريض ومشرد ووحيد.
ولا أستطيع أن أفرح وسريان الاتفاق غير مضمون، فتصريحات نتنياهو كلها تنذر بنقض الاتفاق واستئناف القتال بعد المرحلة الأولى، أو عند أقرب خطأ، فديدن اليهود والصهاينة هو عدم الوفاء بالعقود.
وقد رأينا أثناء الحرب كيف أن دولة الاحتلال كانت تأمر أهلنا في غزة للنزوح لما سمته «مناطق آمنة» ثم تستهدفهم بالرعب فيها بالقتل والحرق والإبادة، والمادة الرابعة من اتفاقية «كامب ديفيد» نصت على إقامة مناطق منزوعة السلاح على جانبي الحدود المصرية «الإسرائيلية»، وهذا ما خرقته دولة الاحتلال باجتياحها لرفح بقواتها ومعداتها الثقيلة، ورأينا ما يحدثه الاحتلال من خروقات الاتفاق في لبنان، وما سينوي المحتل من إبادة الضفة الغربية.
صدق رب العزة حين وصم اليهود بنقض العهود؛ قال تعالى: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) (البقرة: 100)، وهذا تعجيب من كثرة معاهداتهم، وعدم صبرهم على الوفاء بها! فإن «كُلَّمَا» تفيد التكرار، فكلما وجد العهد ترتب عليه النقض، والسبب أن أكثرهم لا يؤمنون (تفسير السعدي)، قال الحسن البصري: ليس في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه ونبذوه، يعاهدون اليوم وينقضون غداً.
ويقول ربنا: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء: 155)، وهذه من الذنوب التي ارتكبها اليهود؛ ما أوجب لعنتهم وطردهم وإبعادهم عن الهدى، وهو نقضهم المواثيق والعهود التي أخذت عليهم، وكفرهم بآيات الله؛ أي: حججه وبراهينه. (تفسير ابن كثير).
ويقول تعالى: (الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ) (الأنفال: 56)؛ وهم بنو قريظة، نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعانوا المشركين بالسلاح على قتال المسلمين، ثم قالوا: نسينا وأخطأنا فعاهدهم الثانية، فنقضوا العهد ومالؤوا الكفار على النبي صلى الله عليه وسلم يوم «الخندق»، وركب كعب بن الأشرف إلى مكة، فوافقهم على مخالفة النبي. (تفسير البغوي).
فغدرت بنو قريظة عهدَهم في أشدِّ الظروف وأحلكها على المسلمين يوم «الأحزاب»، وغدرَت يهودُ بني قينقاع بعد غزوة «بدر»، ومعاهدة المدينة بين المسلمين وأهل يثرب لم يمضِ عليها إلا سنة واحدة، وغدرتْ يهود بني النضير بعد غزوة «أُحد».
فاليهود قوم بُهت (إفك وكذب)، كما قال عبدالله بن سلام الذي كان حبراً من علماء اليهود فأسلم، فقالوا قبل معرفتهم إسلامه: «خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا»، وقالوا بعد إسلامه: «شرنا وابن شرنا»، واليهود ينظرون إلى العهود والمواثيق مع غيرهم أنها لغرض مرحلي ولمصلحة آنية، فإذا استنفد الغرض نقضوا الميثاق من غير استشعار بأي اعتبار خلقي أو التزام أدبي.
وفي التاريخ الحديث، لم تلتزم دولة الاحتلال بأي قرار من القرارات الدولية من الأمم المتحدة أو أي هيئة أخرى؛ ففي عام 1948م تم الاتفاق على وقف الحرب لمدة شهر، يلتزم خلاله الطرفان بعدم جلب السلاح والجنود، والتزم العرب بالهدنة، لكن المحتل لم يلتزم وانهالت عليه الأسلحة والطائرات والمتطوعون من يهود أوروبا، ولما استأنف القتال تفوق اليهود وتراجع العرب.
وبعد اتفاقية الهدنة عام 1949م التي تلت انتهاء الحرب، انتهكها اليهود بالعدوان الثلاثي عام 1956م، قبل أن تنهار بسبب هجوم دولة الاحتلال عام 1967م.
قلوبنا معكم يا أهل غزة، فأعداؤكم لا يرقبون فيكم إلًّا ولا ذمة، وليس لهم عهد ولا ميثاق، فاصبروا وصابروا ورابطوا واعلموا أن الله ناصركم ولو بعد حين (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) (الفجر: 14).