في عصرٍ يطغى عليه الإعلام الرقمي ومواقع التواصل الاجتماعي، أصبح مفهوم الشهرة حلماً يتسلل إلى عقول الأطفال منذ نعومة أظفارهم، قنوات «يوتيوب» وحسابات المشاهير باتت نوافذ مبهرة تُعرض من خلالها أنماط حياة جذابة تدغدغ أحلام الأطفال، وتوجههم نحو هدف ربما كان بعيداً عن إدراكهم في مراحل عمرية مبكرة؛ أن يكون لكل منهم قناته الخاصة ليصبح مشهوراً، ومع هذا الطموح الناشئ، تتوالى الأسئلة حول الأسباب التي أدت إلى هذا التحول، وآثاره على الإيمان، والنفس، والعلم، والمجتمع، والسلوك.
الشهرة ليست مذمومة في الإسلام إذا كانت وسيلة لتحقيق الخير وخدمة المجتمع، وقد عُرف عن الصحابي عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان مشهوراً بعلمه وقراءة القرآن، ومع ذلك كانت شهرته وسيلة للدعوة إلى الله وليس غاية بحد ذاتها، ومع ذلك، يحذر الإسلام من حب الظهور والتفاخر الذي قد يؤدي إلى الرياء، مستشهداً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «من سمّع سمّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به»، هذا التوازن الذي يقدمه الإسلام في التعامل مع الشهرة، يجعل من الضروري مراجعة أهداف الأطفال اليوم عند سعيهم نحو هذه المكانة.
من الناحية النفسية، فإن السعي وراء الشهرة لدى الأطفال قد يؤدي إلى بناء «أنا» مزيفة، حيث يبدؤون بتبني شخصية افتراضية تختلف عن حقيقتهم، هذا الانفصال بين الهوية الحقيقية والافتراضية يولد تناقضات وضغوطاً نفسية، ووفقاً لنظرية إريك فروم، يعتمد الطفل بشكل مفرط على رأي الآخرين لتقدير ذاته بدلاً من بناء ثقته بنفسه داخلياً، كذلك، يتعلم الأطفال من خلال تقليد النماذج التي يشاهدونها، كما تشير «نظرية التعلم الاجتماعي» للعالم ألبرت باندورا، وهذا يجعلهم عرضة لتبني قيم قد لا تتماشى مع أخلاقهم ومجتمعهم.
تؤثر الشهرة أيضاً على العلاقات الاجتماعية للأطفال، حيث تشجع على نمط حياة فردي ومتنافس، فيصبح الهدف هو التفوق على الآخرين بدلاً من التعاون معهم، وقد يؤدي ذلك إلى ضعف مهاراتهم الاجتماعية مثل التواصل وحل المشكلات، كما أن انشغال الأطفال بالشهرة يعرضهم لخطر الانعزال، خاصة إذا لم يحققوا النجاح المتوقع، هذا الانعزال قد يترك آثاراً عميقة على تكوينهم النفسي والاجتماعي.
لا يمكن إغفال دور الإعلام في تسويق مفهوم الشهرة للأطفال، تعتمد العديد من قنوات «يوتيوب» والمحتوى الرقمي على تسويق أساليب حياة استهلاكية تخدم أغراضاً تجارية بحتة، وهذا يعكس استغلالاً تجارياً مباشراً للأطفال، إذ تُعرض الإعلانات بأسلوب مموه يجعل الطفل لا يدرك الفرق بين الترفيه والتسويق؛ الأمر الذي يغذي قيماً استهلاكية تُرسخ نمط حياة غير مستدام.
لعل الجانب الإيماني هو الأكثر تأثراً بهذه الظاهرة، فالطفل الذي ينشأ على مبدأ أن قيمته تُقاس بعدد الإعجابات والمشاهدات قد يغفل عن القيم الروحية الحقيقية التي تدعو إلى الإخلاص لله والعمل لما فيه الخير، الإسلام، في مقاصده السامية، يرسخ قيم العطاء والبذل، ويحث على بناء الشخصية التي تعمل بإخلاص دون انتظار تقدير مادي أو اجتماعي.
لكن، كيف يمكن التعامل مع هذه الظاهرة دون إيذاء مرحلة الطفولة؟ يكمن الحل في تنمية الفهم النقدي لدى الأطفال، وتعليمهم كيفية التمييز بين الحقيقة والخيال في المحتوى الرقمي، ومن المهم أن يدركوا أن ما يرونه على الإنترنت ليس بالضرورة انعكاساً للواقع، كذلك، من الضروري تقديم قدوات بديلة تجمع بين القيم الأخلاقية والإنجاز الواقعي، مثل العلماء والمخترعين والدعاة، لتحفيزهم على الاقتداء بمن يحققون إنجازات حقيقية.
إلى جانب ذلك، يجب أن تُشرك الأسرة والمدرسة في تصميم أنشطة تنموية تجعل الأطفال يكتشفون مواهبهم الحقيقية بعيداً عن ضغط الشهرة، ويمكن تحقيق ذلك من خلال برامج تشجع على التطوع، والمشاركة في الأنشطة الرياضية والثقافية، وتنمية مهارات العمل الجماعي، كما أن تشجيع الأطفال على إنشاء محتوى إيجابي وهادف يمكن أن يساعدهم على التعبير عن أنفسهم بطريقة تعزز القيم دون تضحية ببراءة الطفولة.
إن الطفولة مرحلة تكوينية تتطلب الحماية من تأثيرات الإعلام الرقمي السلبي، فعلى المجتمع بأسره أن يعي أن توجيه الأطفال نحو تحقيق أهداف نبيلة يعزز قيمهم الروحية والنفسية والاجتماعية، ويجعلهم قادرين على مواجهة تحديات العصر الحديث، بتضافر الجهود، يمكننا بناء جيل واعٍ يعيش عصره دون أن يفقد جوهره.