تشكل أزمة النساء الناجيات من الحروب تحدياً كبيراً يواجه المنظمات الدولية والمؤسسات العاملة في مجال إنقاذ المرأة من الأثر النفسي والصحي الذي تعانيه من ويلات الحروب والنزاعات، حيث تشير تقارير المنظمات الدولية إلى أن معظم النازحين من مناطق الصراع في فلسطين المحتلة، وسورية، واليمن، والسودان، وإثيوبيا، من النساء والأطفال، وأن غالبيتهن تعرضن لانتهاكات جسدية وجنسية ونفسية، وهو ما يلقي عبئًا ثقيلًا على هذه المؤسسات.
وعلى الرغم من اهتمام المنظمات الدولية بالأثر النفسي للحروب على النساء، ومحاولة تخفيف وعلاج الضحايا، فإن مجتمعاتنا العربية ما زالت تفتقر إلى تلك المراكز المتخصصة في التأهيل النفسي للنساء الناجيات من الحروب، خاصة أن النظرة للمرأة ودورها المجتمعي ما زالت تحتاج إلى الكثير من الجهد والوعي الثقافي الذي يضع الصحة النفسية للنساء على قدر المساواة مع صحتها الجسمانية والعقلية.
معاناة مستمرة
ولا يغفل عاقل أن النساء هن أكثر الفئات معاناة جراء النزاعات والحروب التي تعصف بالأوطان، والكوارث التي تبدد الاستقرار بها، فهن يتقاسمن مع الأرض أوجاعها، ويثقل كاهلهن واقع موجع تنسجه خيوط الفقد والخوف والتشريد.
ولا شك أن فقدان الأحبة، وهجران البيوت، والنزوح نحو المجهول، لا يقتصر تأثيره على الجسد وحده، بل يضرب النفس في عمقها، فتغدو مثقلة بالآلام النفسية التي يصعب وصفها، وتتعرض النساء في هذه الظروف لأشكال متعددة من العنف والتمييز، منها:
– أفاد تقرير لصندوق الأمم المتحدة للسكان بأن أكثر من 30% من النساء في مناطق النزاع يتعرضن لأشكال من العنف الجنسي.
– وأوردت تقارير أممية أنه في عام 2023م، تضاعفت نسبة النساء اللاتي قتلن في النزاعات المسلحة مقارنة بالعام السابق له.
– وفي عام 2023م، أيضًا قدر عدد النازحين قسريًا بسبب الاضطهاد والنزاعات والعنف بـ117.3 مليون شخص حول العالم، نصفهم من النساء والفتيات.
– وأظهرت الإحصاءات أن واحدة من كل 4 نساء وفتيات في مناطق النزاعات والصراعات تعاني من انعدام الأمن الغذائي بدرجة متوسطة أو شديدة، كما أشارت الإحصاءات إلى ارتفاع هذه النسبة في عام 2023م، لتصل إلى واحدة من كل امرأتين.
– وتفيد تقارير «يونيسف» بأن 7.5 ملايين فتاة في المنطقة العربية حُرمن من حقهن في التعليم نتيجة النزاعات المسلحة.
– وفي الأراضي المحتلة، ووفقًا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، الصادر في 14 يناير 2025م، بلغ عدد الشهداء من النساء في قطاع غزة 12.298 امرأة، من إجمالي 46.584 شهيدًا في القطاع، وبالنسبة لعدد النساء ذوات الإعاقة، تشير التقديرات إلى أنهن يشكلن نسبة 2.1% من إجمالي السكان في فلسطين؛ موزعات بنسبة 48% في الضفة الغربية و52% في قطاع غزة.
– وفي اليمن، تعاني 2.2 مليون امرأة من مضاعفات الحمل بسبب عدم توفر الرعاية الصحية اللازمة نتيجة النزاع المستمر.
إن ما تتعرض له النساء في النزاعات المسلحة وخاصة في مناطق الدول المتخلفة يفوق التصور الإنساني، حيث لا تكتفي أطراف النزاع بتعريضهن للقتل والتجويع والتشرد، وفقْد الأحبة، ولكن الأسوأ أيضًا هو محاولة إذلال النساء بالاغتصاب، بل والتمثيل بأجسادهن في كثير من حروب المنطقة؛ لذا، يجب إعداد المراكز المتخصصة، والمبادرات الاجتماعية المتعددة لإنقاذ النساء الناجيات من هول تلك الأفعال التي تتجرد من الإنسانية.
التأهيل النفسي والاجتماعي
يعد التأهيل النفسي والاجتماعي ركيزة أساسية في تحقيق التعافي والتمكين للنساء اللواتي تعرضن لصدمات نتيجة النزاعات والحروب والكوارث، وتتعدد منهجيات التأهيل المستخدمة في البرامج المعاصرة، حيث تستند إلى مبادئ علم النفس الحديث والإرشاد الأسري، وتتبنى نهجًا تكامليًا يعنى بالصحة النفسية والدعم الاجتماعي على حد سواء.
وتقوم برامج التأهيل النفسي على أسس علمية تستهدف التخفيف من آثار الصدمة النفسية وتعزيز قدرات النساء على التكيف مع الواقع الجديد، ومن بين هذه المنهجيات، يبرز العلاج السلوكي المعرفي (CBT) باعتباره إحدى أهم الطرق الفاعلة في التعامل مع اضطرابات ما بعد الصدمة والقلق والاكتئاب.
وقد أثبتت الدراسات العلمية أن هذا النوع من العلاج يسهم في تحسين الصحة النفسية وتقليل مشاعر الخوف والقلق لدى الناجيات من النزاعات، إلى جانب ذلك، تأتي جلسات الدعم الجماعي كوسيلة فاعلة لتوفير بيئة آمنة تتيح للنساء التعبير عن مشاعرهن ومشاركة تجاربهن؛ ما يعزز الإحساس بالانتماء ويخفف من وطأة العزلة النفسية.
أما التأهيل الاجتماعي، فهو يعنى بتمكين النساء من استعادة أدوارهن المجتمعية والاقتصادية، حيث تقوم هذه البرامج بتقديم الدعم التعليمي والمهني، وتوفير فرص التدريب والتوظيف؛ ما يتيح للنساء فرصة حقيقية لإعادة بناء حياتهن والاعتماد على أنفسهن، وقد أكدت منظمة الأمم المتحدة للمرأة (UN Women) في تقريرها الصادر عام 2023م حول دور التأهيل في المناطق المتأثرة بالنزاعات، أن توفير فرص التعليم والتدريب المهني للنساء يعد من أهم الخطوات لتحقيق التمكين الاقتصادي والاجتماعي، ويسهم بشكل مباشر في تعزيز الاستقرار الأسري والمجتمعي.
مبادرات الدعم
وفي إطار دعمها للناجيات، قدمت بعض المؤسسات برامج تأهيل شاملة تغطي جوانب نفسية واجتماعية واقتصادية؛ ومنها على سبيل المثال، ما حققته مؤسسة الرحمة العالمية وهي منظمة خيرية كويتية تأسست عام 1982م، من نجاحات ملحوظة من خلال برامجها التي تجمع بين جلسات العلاج النفسي الفردي والجماعي ومبادرات تمكين اقتصادي، مثل التدريب على الحرف اليدوية وتوفير قروض صغيرة، وهي التجربة التي تم نشرها باعتبارها نموذجاً يحتذى به في مجلة «Relief and Rehabilitation Journal».
ويشدد الخبراء في مجال علم النفس والإرشاد الأسري على أن نجاح برامج التأهيل يعتمد بشكل كبير على فهم احتياجات كل امرأة على حدة، وتقديم الدعم الملائم الذي يراعي خصوصيتها الثقافية والاجتماعية، وأن تتميز هذه البرامج بمرونة عالية، وتوفير بيئة آمنة وداعمة، وهو ما لا يتأتى إلا بتدريب كادر من العاملين في مجال التأهيل على مهارات التواصل الفعال والتعاطف لضمان تقديم الدعم النفسي بأسلوب إنساني يحترم تجارب الناجيات المؤلمة.
وفي رحاب الإسلام، تتجلى قيم الرحمة والتكافل كضوء دافئ يحيط بكل من أنهكته المحن، ويمنح النساء الناجيات من الأزمات أملاً في حياة كريمة ومستقبل مشرق؛ فالمنظور الإسلامي ينبني على أسس متينة من التراحم والتآزر بين أفراد المجتمع، حيث يقول تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) (التوبة: 71)، مشيرًا إلى تكافل شامل يعزز مناعة المجتمع أمام الأزمات.
ولم يكن دعم المرأة في الإسلام مجرد كلمات عابرة، بل منظومة شاملة تشمل النواحي النفسية والاقتصادية والاجتماعية؛ فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد»، وهذا التصوير البليغ يعكس واجب المجتمع في الوقوف إلى جانب النساء الناجيات، ودعمهن حتى يستعدن ثقتهن بأنفسهن، كما أكد الإسلام أهمية التكافل المالي من خلال فرض الزكاة والصدقات كأدوات لمداواة الجراح الاقتصادية، تحقيقًا للعدل الاجتماعي.
ومع عناية الإسلام بالجانب النفسي، أوصى النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: «استوصوا بالنساء خيرًا»، وهي دعوة ظاهرة لتعزيز احترام مشاعرهن وتقدير أدوارهن؛ وهو ما يشكل ركيزة لبرامج التأهيل الحديثة التي تقوم بها المؤسسات الإسلامية عبر تقديم الدعم النفسي والمادي للناجيات في مناطق النزاعات والحروب.
__________________________
(1) Journal of Traumatic Stress، 2022.
(2) تقرير منظمة الأمم المتحدة للمرأة (UN Women)، 2023.
(3) تجربة مؤسسة الرحمة العالمية في التأهيل النفسي والاجتماعي، مجلة Relief and Rehabilitation Journal، 2021.
(4) تقرير منظمة التعاون الإسلامي حول التكافل الاجتماعي (oic-oci.org).
(5) دراسة جامعة الأزهر بالتعاون مع إيسيسكو، 2022.
(6) الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية (iico.org).