أثار الانتقال السياسي في سورية الجدل مجدداً بشأن صياغة المناهج التعليمية في مجتمع ما بعد الثورة، خاصة في ظل عقود من تشويه هذه المناهج بدعايات زائفة ومعلومات مغلوطة تشربتها أجيال متعاقبة؛ ما يجعل التحدي أمام أهلنا هناك مضاعفاً، إذ إن التغيير في الواقع أعمق من مجرد النظر في النظام السياسي وأبعاده الاقتصادية.
فالتعليم والتربية صنوان لا يفترقان، وكلاهما يشكل مستقبل أي أمة، وعندما نتحدث عن التعليم، فإننا لا نتحدث فقط عن كتب مدرسية، بل عن مناهج تمثل اللبنة الأولى في بناء المجتمع، وتشكل الهوية الثقافية والدينية للأجيال القادمة.
لكن في سورية، وبعد عقود من التشويه المتعمد، أصبحت الحاجة إلى إصلاح هذه المناهج أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، خاصة بعد الثورة التي كشفت عن حجم التزييف الذي تعرضت له عقول أبنائنا عبر سنوات طويلة.
فمناهج التاريخ تتحدث عن «بطولات» النظام السابق أكثر مما تستعرض بطولات تاريخنا الإسلامي، وكتب الدراسة كانت أداة لتعزيز الولاء لنظام طائفي وليس لتنمية العقل أو الروح، فضلاً عن مشكلات المناهج المشتركة في كل البلدان العربية تقريباً، التي تقوم على تلقين الطلاب وليس على ترسيخ منهجية التفكير الناقد لديهم.
وإذا كان إزالة الدعايات المغلوطة في المناهج أمراً ميسوراً في إصدارات الكتب الدراسية الجديدة، فإن إصلاح المناهج التعليمية بالمعنى الواسع يجب أن يشمل تعليم الدين ليخرج من إطاره السطحي التقليدي، الذي يلقن الطلاب نصوصاً دون تعمق في قيم الإسلام وتطبيقها؛ ما أسفر عن تشوه لم يكن وليد الصدفة، بل كان جزءاً من إستراتيجية ممنهجة لخلق جيل منفصل عن جذوره الإسلامية تحت شعارات قومية أو علمانية.
وبعد الثورة في سورية، لا يبدو الطريق مفروشاً بالورود على هذا الصعيد في ظل الظروف الأمنية والسياسية المضطربة، إذ إن عملية الإصلاح أشبه بمحاولة بناء بيت في وسط إعصار، ويضاف إلى ذلك واقع مرير سجلته منظمة «يونسكو» عام 2020م، مفاده أن أكثر من 40% من المدارس في سورية تعرضت للتدمير أو التضرر الجسيم؛ ما جعل يجعل إصلاح الواقع التعليمي أكثر تعقيداً.
غير أن التحدي أمام هذا الإصلاح ليس مادياً فقط، بل إن الشق المادي فيه هو الأقل أهمية، في ظل التحديات التي تواجه تشكيل الفكر الحاكم في مناهج التعليم، الذي يفترض أن يعكس قيم الثورة دون أن تتحول المناهج إلى أداة للصراع السياسي.
الهوية والقيم
إن مناهج التعليم الجديدة يجب أن تجتاز تحدي الموازنة بين حفظ الهوية الإسلامية واحترام التنوع الثقافي في مجتمعٍ متعدد الأطياف مثل سورية، والمفتاح الرئيس لتحقيق ذلك هو العودة إلى الجذور الإسلامية العامة بعيداً عن صبغ المناهج بأي صبغة طائفية أو مذهبية.
فالإسلام ليس انحيازات المذاهب، كما أنه ليس مجرد دين شعائري، بل هو نظام حياة شامل يُعنى بكل جوانب الوجود الإنساني، ولذا فإن تقديم القيم الإسلامية هو الأساس الذي ينبغي البناء عليه في المناهج التعليمية الجديدة، دون أن يعني ذلك أي إهمال للمواد العلمية أو الأدبية، بل تقديمها من منظورٍ إسلامي يعزز الأخلاق ويحفظ الهوية.
فلا يكفي في عملية إصلاح المناهج أن نحسن تعلم أبنائنا للعلوم الحديثة دون أن نربطها قيم الإسلام التي ترشدهم إلى كيفية استخدام هذه العلوم لخدمة أمتهم، بل والإنسانية جمعاء، وهو ما لا يمكن أن يتم دون مشاركة فاعلة للمؤسسات الدينية والأهلية.
وهنا ثمة تجربة يمكن البناء عليها في سورية الجديدة، وهي تلك التي جرى تطبيقها في إدلب في مرحلة الإعداد للثورة، إذ شارك ممثلون عن الأهالي بنشاط في مراجعة الكتب المدرسية، وكانت هناك لجنة من العلماء والدعاة تقوم بمراجعة المحتوى لضمان توافقه مع الشريعة وقيمها، وقد ساهمت هذه المشاركة المجتمعية في تشكيل مناهج أقرب إلى واقع المجتمع واحتياجاته، وقدمت نموذجاً تتحدث عنه عديد الدراسات بأنه كان نموذج التمهيد لإطلاق الثورة.
وسورية في هذا السياق ليست بدعاً من الدول، فعندما ننظر إلى تجارب دول أخرى مرت بتحولات سياسية مشابهة، نجد أن إصلاح التعليم كان دائمًا في صلب عملية الانتقال، ومنها جنوب أفريقيا، إذ جرت إعادة صياغة للمناهج التعليمية بعد انتهاء نظام الفصل العنصري لتعكس قيم المساواة والعدالة، وهي تجربة قدمت درساً مهماً مفاده أن إصلاح التعليم ليس عملية أكاديمية بحتة، بل جزء من عملية أوسع لإعادة بناء المجتمع.
ولذا، فإن إصلاح المناهج التعليمية في سورية ليس مجرد تحدٍّ تربوي وثقافي، بل هو مشروع أمة يتطلب تضافر الجهود من كل أطياف المجتمع، وإذا أردنا أن نرى في عيون أطفال أهلنا هناك الأمل في مستقبل أفضل، فالبداية يجب أن تكون بمناهج تُعزز قيم الإسلام وتحافظ على هويتها وتفتح الأبواب في الوقت ذاته أمام آفاق العلوم والمعارف.
لقد رأينا كيف يمكن للتعليم أن يُغيّر حياة الناس، وضربت لنا أسطورة غزة مثالاً يحتذى به، حيث طلب العلم عملية مستمرة في ظل القصف والعدوان، فالعلم والإيمان هما السلاح الذي سنبني به مستقبل أبنائنا، وهذه الروح هي التي يجب أن تعكسها مناهجنا التعليمية الجديدة.