أورد الأصبهاني، وابن الجوزي، في ترجمة زين العابدين عليّ بن الحسين رضي الله عنهم، عن عمرو بن ثابت رضي الله عنه قال: كان عليّ بن الحسين يحمل جرب الدقيق ليلاً على ظهره، ويضعها أمام بيوت الفقراء، ثم ينصرف وهو يقول: إن صدقة السر تطفئ غضب الرب، وظل على هذه الحال إلى أن وافته المنية، فلما غسّلوه وجدوا آثار الحبال سوداءَ على ظهره، فقالوا: ما هذا؟ فحدث أهلُه الناسَ بصنيعه.
ظلام الليل أدعى للستر وأقرب ألا يعرف حامل الصدقة
وفي هذا يقول شيبة بن نعامة: كان عليّ بن الحسين يبخل، فلما مات وجدوه يقوت مائة أهل بيت بالمدينة، وقال محمد بن إسحاق: كان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم؟ فلما مات عليّ بن الحسين فَقَدُوا ما كانوا يؤتون به في الليل، وقال محمد بن زكريا: سمعت ابن عائشة يقول: قال أبي: سمعت أهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السر حتى مات عليّ بن الحسين(1)، إنها صدقة السر، التي حرص الدعاة إلى الله تعالى في الحضارة الإسلامية على التمسك بها وتربية الأمة عليها.
مظاهر حرص الدعاة في الحضارة الإسلامية على الإسرار بالصدقة:
1- التأكيد على من رأى الصدقة ألا يخبر بها أحداً:
أورد الذهبي، والخطيب البغدادي، أن عبدالله بن المُبَارَكِ كَانَ كَثِيْرَ الاختِلَافِ إِلَى طَرَسُوْسَ، وَكَانَ يَنْزِلُ الرَّقَّةَ فِي خَانٍ، فَكَانَ شَابٌّ يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ، وَيَقُوْمُ بِحَوَائِجِهِ، وَيَسْمَعُ مِنْهُ الحَدِيْثَ، فَقَدِمَ عَبْدُاللهِ مَرَّةً، فَلَمْ يَرَهُ، فَخَرَجَ فِي النَّفِيْرِ (أي الجهاد في سبيل الله)، مُسْتَعجِلاً، فَلَمَّا رَجَعَ، سَأَلَ عَنِ الشَّابِّ، فَقَالَ: مَحْبُوْسٌ عَلَى عَشْرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَاسْتَدَلَّ عَلَى الغَرِيْمِ، (صاحب الدَّين)، وَوَزَنَ لَهُ عَشْرَةَ آلَافٍ، وَحَلَّفَهُ أَلَاّ يُخْبِرَ أَحَداً مَا عَاشَ، فَأُخْرِجَ الرَّجُلُ، وَسَرَى ابْنُ المُبَارَكِ، فَلَحِقَهُ الفَتَى عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنَ الرَّقَّةِ، فَقَالَ لِي: يَا فَتَى، أَيْنَ كُنْتَ؟ لَمْ أَرَكَ! قَالَ: يَا أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ، كُنْتُ مَحْبُوْساً بِدَيْنٍ، قَالَ: وَكَيْفَ خَلصتَ؟ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَضَى دَيْنِي، وَلَمْ أَدرِ، قَالَ: فَاحْمَدِ اللهَ، وَلَمْ يَعْلَمِ الرَّجُلُ إِلَاّ بَعْدَ مَوْتِ عَبْدِاللهِ بن المبارك(2).
صدقة السر تسهم في تربية النفس على الإخلاص لله تعالى
2- عدم إخبار أقرب الناس إليهم بالصدقة:
أكد ابن عساكر، وابن الجوزي، أن داود بن أبي هند كان حريصاً على الإسرار بالصدقة، ولا يخبر بها أحداً من أهله، فعن عمرو بن علي قال: سمعت ابن أبي عدي يقول: صام داود بن أبي هند أربعين سنة، لا يعلم به أهله، وكان خرازاً يحمل معه غداءه من عندهم، فيتصدق به في الطريق، ويرجع عشياً فيفطر معهم(3).
3- التصدق ليلاً:
ظلام الليل أدعى للستر، وأقرب ألا يعرف حامل الصدقة، ولهذا حرص الدعاة إلى الله تعالى في الحضارة الإسلامية على إخراج الصدقة فيه، حتى يكون ذلك سراً بينهم وبين ربهم سبحانه وتعالى.
ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره محمد بن القاسم، خادم أبي الحسن الطوسي، قال: كان أبو الحسن رحمه الله يصِل قوماً ويعطيهم ويكْسوهم، فيبعث إليهم، ويقول للرسول: انظر ألا يعلموا مَن بعثه إليهم، ويأتيهم هو بالليل، فيذهب به إليهم، ويخفي نفسه فربما بَليت ثيابهم ونَفِد ما عندهم، ولا يدرون من الذي أعطاهم(4).
صدقة السر تؤدي إلى ستر الفقير والتعفف من ذل المسألة
وقال محمد بن الحسن الحاتمي: الليل أضوأ في مذاهب الفكر، وأخفى لعمل البر، وأعون على صدقة السر(5)، وذكر ابن الجوزي عن حسان بن سعيد أنه كان يحضر الخبز إلى ألف من الفقراء، ويفرق عليهم، ويوصل إليهم صدقة السر بحيث لا يعلم أحد(6).
دوافع حرص الدعاة في الحضارة الإسلامية على الإسرار بالصدقة:
1- أقربُ إلى الإخلاص وأبعدُ من الرياء:
تسهم صدقة السر في تربية النفس على الإخلاص لله تعالى، ولهذا حث عليها ربنا في قوله: (إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (البقرة: 271)، قَالَ الْحَسَنُ: إِظْهَارُ الزَّكَاةِ أَحْسَنُ، وَإِخْفَاءُ التَّطَوُّعِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى أَنَّهُ يُرَادُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ وَحْدَهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَعَلَ اللَّهُ صَدَقَةَ السِّرِّ فِي التَّطَوُّعِ تَفْضُلُ عَلَانِيَتَهَا يُقَالُ بِسَبْعِينَ ضِعْفًا(7).
وقال النووي في شرح حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، منهم: «رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه»؛ في الحديث تأكيد على فضل صدقة السر؛ لأنه أقرب إلى الإخلاص وأبعد عن الرياء، وهنا يتبين أن صدقة السر تطهر النفس من حب الدنيا، فهي تحمي فاعلها من التباهي بعمل الخير، بل إنها تساعده أن يقصد بعمله وجه الله تعالى دون سواه.
2- طلب الستر من الله تعالى:
تؤدي صدقة السر إلى ستر الفقير والمحتاج من ناحيتين؛ الأولى: ستره من حيث قضاء حاجته، والثانية تظهر في عدم تعرضه لسؤال الناس، فقد أعانته صدقة السر على التعفف والحماية من ذل المسألة، وفي هذا من السعادة للفقير الشيء الكثير.
.. وثوابها عظيم فهي سبيل إلى الدخول بظل العرش يوم القيامة
وإن الله تعالى يستر من ستر الناس؛ إذ الجزاء من جنس العمل، فمن كسا لله كساه الله، ومن أطعم لله أطعمه الله، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن أعظم الستر أن يتقي العبد غضب الله تعالى، وقد ربّى الرسول صلى الله أصحابه على أن «صَدَقةُ السِّرِّ تُطفِئُ غضبَ الرَّبِّ»(8)؛ أي: تكونُ سبباً لذلك، فإنَّ المَرْءَ قد يَسْتحِقُّ بالذُّنوبِ العُقوبَةَ، فإذا هو تصَدَّقَ سِراً؛ دَفَعَ عن نَفْسِه العذاب.
3- تحصيل الأجر والثواب:
إن ثواب صدقة السر عظيم عند الله تعالى، فقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم أنها سبيل إلى الدخول في ظل العرش يوم القيامة، كما أنها سبيل إلى محبة الله تعالى، ولهذا حرص العلماء في الحضارة الإسلامية على الوصية بها، حيث قال عبدالعزيز بن أبي رواد: ثلاثة من كنوز الجنة؛ كتمان المرض، وكتمان الصدقة، وكتمان المصائب(9)، وقال الغزالي: صدقة السر تكفر ذنوب الليل وصدقة الجهر تكفر ذنوب النهار(10).
____________________
(1) حلية الأولياء: الأصبهاني (3/ 136)، وصفة الصفوة: ابن الجوزي (1/ 355).
(2) سير أعلام النبلاء: الذهبي (8/ 386)، وتاريخ بغداد: الخطيب البغدادي (11/ 388).
(3) تاريخ دمشق: ابن عساكر (17/ 129)، وحلية الأولياء: الأصبهاني (3/ 94).
(4) صفة الصفوة: ابن الجوزي (2/ 317).
(5) زهر الآداب وثمر الألباب: أبو إسحاق القيرواني (1/ 153).
(6) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (16/ 135).
(7) تفسير القرطبي (3/ 332).
(8) صحيح الجامع (3766).
(9) إحياء علوم الدين: الغزالي (1/ 226).
(10) المرجع السابق (4/ 47).