في محاضرة هذا الأسبوع بدأت الحضور بسؤال: كيف تحب أن تلقى الله؟
في محاضرة هذا الأسبوع بدأت الحضور بسؤال: كيف تحب أن تلقى الله؟
أجابوا بصوت واحد: أن أموت ساجداً.
لم يفاجئني الجواب، فهو شيء أتمناه لنفسي، و«أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ» (رواه مسلم).
وكان أبو ثعلبة يتمنى ميتة حسنة، فمات وهو ساجد في صلاة الليل.
لو سألت العم “جوجل” عمن ماتوا ساجدين لسرد لك قائمة طويلة من المتقدمين والمتأخرين، ومن الحقائق والظنون والشائعات!
الشهيد أعظم عند الله منزلة (وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) (الحديد:19).
الفاروق العظيم جمع الله له بين الشهادة، وأن يموت في صلاته، وفي بلد رسوله صلى الله عليه وسلم.
ما الغريب إذاً؟
لك أن تبحث عن أثر التعبُّد في حياة مجتمعات إسلامية تحتشد في المساجد، وتسارع إلى العمرة بعد العمرة والحج بعد الحج، وإذا لم تفعل هذه العبوديات فعلها في حياتنا فالله عن تعذيب أنفسنا وعن عبادتنا غني.
لم لا يكون من بيننا من يحب أن يموت وهو منهمك في عمل خير وإحسان ونفعٍ للفقير والمسكين والغريب والمريض والصغير؟ وهو إحسان يتعدى نفعه للآخرين ولا يقتصر على صاحبه.
لم لا يكون من بيننا من يحب أن يموت وهو عاكف على بحث معرفي يكشف فيه غامضاً أو يجلي ملتبساً أو يقرر قاعدة أو يدفع العلم البشري إلى الأمام ولو خطوة صغيرة؟ والعلم هو ميزة آدم التي خولته الخلافة في الأرض وسجود الملائكة.
لم لا يكون من بيننا من يحب أن يموت وهو على رأس عمل أو وظيفة نذر أن يكون فيها مخلصاً لله نافعاً لعباد الله مبتسماً للناس قائماً بحقوقهم صابراً على أذاهم؟ ولو كان يكسب من ورائها رزقه وقوت ولده فهذا “في سبيل الله”.
لم لا يكون من بيننا من يحب أن يموت وهو مغترب في دعوة أو إصلاح أو معروف لا يريد من ورائها رياءً ولا سمعة، قصده أن يأخذ بأيدي الشاردين إلى الحق، وأن يهدئ النفوس الثائرة حتى تلين، وأن يجمع شتات القلوب على الخير؟
لم لا يكون من بيننا من حلمه أن يعيش طويلاً ممتعاً بقواه حتى يرى فرج الله وفتحه للمستضعفين؟ (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ {5} وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ {6}) (القصص).
لم لا يكون من بيننا من حلمه أن ينسأ الله في أثره ويوسع في رزقه لا استكثاراً للأرصدة، بل يكون ممن آتاه الله مالاً فقال فيه هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، وأنجز فيه مشاريع البر والصدقة والإحسان؟
لم لا يكون من بيننا من حلمه ألا يغادر الحياة قبل أن يترك بصمة صادقة يذكر بها فيشكر ويدعى له؟ “صَدَقَة جَارِيَة، أَوْ عِلْم يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَد صَالِح يَدْعُو لَهُ”.
لم لا يكون من بيننا من حلمه أن يبقى ليُلهم الأجيال خلاصة تجربة حية، ويتحدث بالحكمة والبصيرة من عبر الأيام، ليكون ممن دعا إلى هدى أو حذر من ردى، وليحمي غيره من تكرار تجارب منقوصة أو فاشلة، ويصنع بذلك التراكم المعرفي والحياتي؟
لم لا يكون من بيننا من يسجد ويقنت فيكون بكاؤه ودعاؤه التماساً لنهضة الأمة أو بعض شعوبها ويقظتها من سباتها الطويل؟ ولن تكون الدموع ولا الخشوع وسيلة للنجاح ما لم تتحول إلى إرادة صادقة مخلصة وعمل جاد دؤوب لا يعرف اليأس.
لم لا يكون من بيننا من يتجاوز خياله الإيجابي حدود الواقع البائس إلى مستقبل مليء بالبشريات؟ وحين يقول: إنه يحلم أن يرى الأرض المحتلة وبيت المقدس وقد عادت لأصحابها وتخلصت من قبضة الطغاة الظالمين، فهو لا يخادع نفسه ولا يتمنى الأماني، ولكنه يتكئ على الثقة بوعد الله “ولله أوس قادمون وخزرج”.
فَيارَبِّ إِن حانَت وَفاتي فَلا تَكُن عَلى شَرجَعٍ يُعلى بِخضر المَطارِفِ
وَلَكِن أَحِن يَومي سعيداً بعصبةٍ يُصابونَ في فَجٍّ مِنَ الأَرضِ خائِفِ
عَصائِبُ مِن شيبان ألَّف بينهم تقى اللَهِ نَزّالونَ عِندَ التزاحفِ
إِذا فارَقوا دُنياهُمُ فارَقوا الأَذى وَصاروا إِلى مَوعودِ ما في المَصاحِفِ
لم لا يكون حلمي أن أعيش؟ وأعيش سعيداً ممتعاً معتبراً مستغفراً، ودعائي ألا أرحل عن هذه الدار إلا بالصفاء الذي قدمت فيه إليها، وألا ألقى الله مُصرَّاً على ذنب أو معصية أو موقف لا يُرضيه، وأن يختم لي بحسن الظن فيه، وبالتوبة الصادقة التي لا تنقض ولا تنتهك من كل ما يخالف انتمائي لدينه وانتسابي لأهل ملته.