الحج رحلة إيمانية عجيبة، فهي رحلة تربوية إيمانية روحية، تختلط فيها كل الأحاسيس والمشاعر والجوارح
الحج رحلة إيمانية عجيبة، فهي رحلة تربوية إيمانية روحية، تختلط فيها كل الأحاسيس والمشاعر والجوارح؛ ليعود الإنسان منها كما ولدته أمه وقد غُفر له، لا يؤديها المسلم إلا وهو قادر عليها؛ سواء قدرة مادية أو نفسية أو جسدية، وإن كان الحج يبدأ بالاستطاعة، ويمر بمراحل من التعايش والتواضع وتقبُّل الآخر، وليصل لمرحلة الولادة، فكذلك الزواج وتكوين الأسرة؛ يبدأ بالاستطاعة، ويمر بمرحلة التعايش وتقبل الآخر، ويستمر بولادة أبناء يكملون سلسلة الحياة.
وللحج الكثير من الدروس التربوية، وبما أننا نعيش في هذه الفترة أيام الحج المباركة؛ فلنستشعر معاً بعض دروسه وعبره لتكون هادية لنا في حياتنا الأسرية.
من استطاع منكم الباءة
كما شرع الله الحج، شرع الزواج وجعله شعيرة من شعائر ديننا الحنيف، وكما كانت البداية للحج «من استطاع إليه سبيلاً»، كانت الاستطاعة بداية للزواج الصحيح، فعن ابن مسعود في الصحيحين، قال النبي [: «يا معشر الشباب، من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء»،
وفي صحيح البخاري وغيره: «إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخُلقه فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض».
وكما أوجب الحديث الأول الاستطاعة المادية، أوجب الحديث الثاني الاستطاعة الدينية والخُلقية، بين هذه الاستطاعات لنا وقفة سواء للنفس أو لتربية الأبناء، فنحن حين ارتضينا أن نجتمع مع الطرف الآخر ونؤسس معاً أسرتنا الصغيرة أوجبنا على أنفسنا الاستطاعة، ومن أهم صور الاستطاعة تحمُّل المسؤولية كاملة تجاه من شاركونا حياتنا الأسرية، تحمُّل المسؤولية المادية من إنفاق وتوفير الحياة الكريمة، وتحمُّل المسؤولية العاطفية من توفير الحب والرعاية والمودة والشعور بالأمان، وتحمُّل المسؤولية التربوية من توفير البيئة الملائمة للتعلم وتنمية الفكر والأخلاق واكتشاف الذات، وتحمُّل المسؤولية النفسية من توفير وسائل الترفيه والاستقرار النفسي، وإن كان هذا ما أوجبناه على أنفسنا، يأتي دور تدريب الصغار على هذه المفاهيم بالتدريج أو بالقدوة؛ ليصبح مفهوم الزواج لديهم يعني المسؤولية والمودة والتضحية، وليس كما يفهمه بعض الشباب والفتيات على أنه مزيد من الحريات والنزهات والسهرات والسفرات، فحتى إذا ما أصبحت الحياة أكثر جدية افترق الطرفان دون أدنى تحمُّل للمسؤولية.
خيركم خيركم لأهله
قال الله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ } (البقرة:197)، وقال رسوله الكريم [: «إن من أحبكم إليَّ وأقربكم منى مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً».
كما شرع الله الحج وجعل من أساسه الأخلاق، جعل الزواج مودة ورحمة، فالأخلاق وحُسن المعاشرة والسماحة واللسان الطيب من أهم وسائل التعايش الآمن والسبيل إلى الحب والمودة، وهي غاية الزواج الأسمى، فحينما نرى أفواج الحجاج تسير بأمان لنستشعر هذا الأمان في بيوتنا ونطبقه بحُسن الأخلاق، وحُسن العشرة، واحتواء الآخر وتفهّمه، ولنعلم عندما يرتفع الصوت بالصراخ واليد بالضرب ستنكسر الكثير من المشاعر التي وإن أصلحنا الكسر ستبقى آثاره واضحة؛ مما يؤدي إلى اختفاء المودة والرحمة، ومن ثم غرق الزواج في بحر الخلافات وسوء الأخلاق.
إن الحمد والنعمة لك والملك
يبدأ الحج بالتلبية، وتتكرر التلبية ويتكرر الحمد، حمد الله على نعمة التمكن من الحج، وحمد الله على نعمه الكثيرة، حمد الله على القدرة والتمكين، وحمد الله على المغفرة، وهذا الحمد هو السبيل للحياة المملوءة بالرضا والهدوء، فالحياة الأسرية حياة تتخللها الكثير من الأحداث السعيدة وأيضاً الأحداث السيئة، وعندما يكون الحمد في السراء والضراء هو شعارنا ستصبح الحياة أكثر راحة وأكثر سعادة وأكثر سكينة بل وأكثر ثواباً.
اللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد لحمدنا إياك. اللهم تقبل لمن جاءك حاجاً لا يريد إلا وجهك الكريم، وهبْ لمن بات راغباً في زيارة بيتك الحرام حجاً مبروراً.