يعتقد المارة أن منزل ريما قريب من منطقة المقابر، إلا أن المتتبع لخطواتها يُصاب بذهولٍ، حينما تدخل ريما المقابر بقلبٍ يصفه بعض أهالي المنطقة بـ”القوي”، وتتابع خطواتها حتّى تصل إلى منزلٍ من الصفيح نُصب بين القبور.
حافية القدمين، كانت الطفلة ريما كحيل ابنه السبعة أعوام تلعب قرب مقابر “الشيخ شعبان”، شرقي مدينة غزة.
يعتقد المارة أن منزل ريما قريب من منطقة المقابر، إلا أن المتتبع لخطواتها يُصاب بذهولٍ، حينما تدخل ريما المقابر بقلبٍ يصفه بعض أهالي المنطقة بـ”القوي”، وتتابع خطواتها حتّى تصل إلى منزلٍ من الصفيح نُصب بين القبور.
وهي تشير بسبابتها نحو منزل مكون من مجموعة من الصفيح (رقائق من الحديد)، تقول الطفلة ريما لوكالة الأناضول: “نعيش في ذلك المنزل أنا ووالداي وإخوتي السبعة، كما أن أقاربنا يسكنون في المنازل المجاورة”.
ويتوسط منزل ريما قبرين اثنين، إذ لم تجد العائلة مكاناً فارغاً تخصصه لإنشاء منزلٍ صغير خالٍ تماماً من القبور.
والد ريما رفض الحديث أو حتى تصوير منزله، مكتفياً بالقول: المقابر هي عنوان حياتنا، فالحياة هنا بين المقابر ليست إلا اختصاراً للموت، لا حياة هنا، ولا يمكننا أن نتحدّث عن الحياة أصلاً.
وتضم مقابر مدينة غزة أكثر من 98 بيتاً يأوي كل منها عائلة أو أكثر، بحسب وزارة الأوقاف الفلسطينية في قطاع غزة، الذي يقطنه نحو 1.9 مليون فلسطيني.
على مسافة تبعد عن المقابر قرابة أربعة أمتار، تجلس يسرى كحيل (65 عاماً) على الأرض، وتمسك بيدها عبوات بلاستيكية بها لبن، تقلّبها باحثةً عن معلومة تطمئنها بأن تلك العبوات صالحة للشرب.
وما إن رأت طاقم “الأناضول” حتّى طلبت منه أن يتأكد من تاريخ انتهاء صلاحية تلك العبوات.
وتتابع قائلة: هذه العبوات وجدها أحفادي وهم يبحثون عن الطعام داخل حاويات القمامة، وجلبوها لي، إلا أنني لا أعرف هل تصلح للشرب أم لا.
وتوضح كحيل أنها أمٌّ لخمسة أبناء جميعهم عاطلون عن العمل، ويعيشون تحت خط الفقر، ويتخذون من مقابر الشيخ شعبان مأوى لهم ولأطفالهم.. وأنا أعيش داخل المقابر منذ أكثر من خمسين عاماً، مضيفة أنها “لاجئة في مقابر الأموات”.
وتمضي بقولها: أبنائي الخمسة يعيشون كأنهم مجهولو الهوية، فهم لا يملكون بطاقات هوية، فمنذ أن قدموا إلى هذه الحياة لم يكن لدينا مصدر للدخل يوفّر لنا نقوداً لإصدار بطاقات ميلاد من الجهات الحكومية.
وتذكر أن المقبرة باتت “عنواناً” لهم ولعائلتهم، وأن الإهمال الحكومي والمؤسساتي للعائلات التي تعيش داخل المقابر أنهك حياتها.
وتقول الستينية الفلسطينية: إن العشرات من الغزيين الذين يتخذون من المقابر منازل لهم يعانون من أمراض جلدية ومعوية بسبب ظهور حشرات غريبة في أماكن سكناهم.
وتستكمل قائلة: كما أن العقارب تتخذ من أماكن نومنا مساكن لها، ناهيك عن وجود الثعابين في منازلنا، فلا شيء يحمينا من لسعاتها.
وتضيف أن الكثير من الأطفال الذين يخرجون من منازلهم ويلعبون بالقرب من القبور يتعرضون لهجمات من الكلاب الضالة والقطط البرية المفترسة.
وفي فصل الشتاء، تغرق المنازل المكوّنة من صفائح الزينكو (ألواح حديدية) بالمياه، أو تتساقط على روؤس ساكنيها، كما تقول العجوز الفلسطينية.
وتتابع: هنا نعيش على مساعدات أهل الخير.. في بعض الأحيان يقدمون لنا ملابس غير صالحة للاستعمال، إلا أننا نضطر لاستعمالها لأننا لا نملك حتّى لو القليل منها، لا شيء يحمينا من برد الشتاء، أو من ذل هذه الحياة سوى الله.
فيما يقول محمد سالم، مدير أوقاف محافظة غزة التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الدينية، لوكالة “الأناضول”: إن المقابر في محافظة غزة تضمّ أكثر من 98 بيتاً، منها بيوت تأوي عائلتين وأكثر.
ويوضح أن أكثر العائلات التي تعيش في مقابر غزة تتركز في مقبرتي الشيخ شعبان والتوينسي شرقي غزة، ولا توجد أرقام لعدد أفراد تلك العائلات.
ويعتبر سالم أن اتخاذ عشرات الغزيين للمقابر بيوتاً لهم يمثل تعدياً على أراضي الوقف، ولن تتمكن وزارة الأوقاف من إصدار قرارات بإفراغ المقابر من السكان الأحياء؛ نظراً لسوء الأوضاع الاقتصادية في غزة.
وأشار إلى أن ارتفاع نسبتي البطالة والفقر في القطاع من أكثر العوامل التي دفعت غزيين إلى اتخاذ المقابر مساكن لهم.
ومنذ أكثر من 7 أعوام، يعيش قطاع غزة حصاراً خانقاً، ورفعت الحرب “الإسرائيلية” الأخيرة على القطاع من معدلات الفقر والبطالة، وفق تأكيد “اللجنة الشعبية لرفع الحصار عن غزة” (غير حكومية)، حيث تبلغ نسبة البطالة 60%، والفقر 90%.
ويلفت المسؤول الفلسطيني إلى أن المقابر الواقعة جنوبي قطاع غزة، خاصة مقبرة دير البلح، تضم أيضاً بيوتاً لبعض المواطنين.
ويمضي سالم قائلاً: إن وزارة الأوقاف تواصلت مع الحكومة السابقة (حكومة حركة المقاومة الإسلامية – حماس) لحل مشكلة ساكني المقابر، إلا أنها ذكرت آنذاك أن ميزانياتها المالية لا تكفي لحل تلك المشكلة.. وستتواصل الوزارة مع حكومة الوفاق الوطني للسعي إلى حل معاناة تلك العائلات.
وفي السابع من يوليو الماضي، شن الجيش “الإسرائيلي” حرباً على قطاع غزة استمرت 51 يوماً؛ ما تسبب في مقتل أكثر من ألفي فلسطيني، وإصابة نحو 11 ألفاً آخرين بجروح، وفق وزارة الصحة الفلسطينية.
فيما أعلنت وزارة الأشغال العامة والإسكان الفلسطينية أن إجمالي الوحدات السكنية المتضررة جراء هذه الحرب بلغ 28366.
ولم تسلم مقابر غزة من القصف “الإسرائيلي” خلال الحرب الأخيرة، إذ استهدفت طائرات حربية عدة مقابر، تضرر على إثرها منزل المواطن خميس كحيل (32 عاماً) بشكل كليّ داخل مقبرة الشيخ شعبان.
ويقول كحيل لوكالة “الأناضول”: إن المنزل الذي استهدفته الطائرات الحربية، والذي كان يتكون من غرفتين من صفائح الزينكو وبعض الحجارة، ورثته عن والداي، اللذين عاشا فيه منذ أكثر من 50 عاماً.
ولم يجد كحيل إلا أن يحوّل قبرين لا تفصل بينهما إلا مسافة متر ونصف المتر إلى خيمةٍ تأويه هو وأطفاله.
ويختتم الشاب الفلسطيني باستنكار ما يقول إنه تقصير المؤسسات الحكومية والأهلية والخيرية تجاه ساكني المقابر بغزة، مناشداً حكومة الوفاق الوطني الفلسطيني النظر بعين من الرحمة لأولئك الأشخاص، ولاسيما الأطفال.