د. ابراهيم بو محمد
د. إبراهيم بو محمد
من الحكم المعروفة عند قدماء المصريين قولهم: “نَمْ ليلة قبل التكلم “، والمقصود طبعاً أن يفكر الإنسان فيما سيقوله قبل النطق به، ويفترض في المسؤول الكبير أن تكون كلماته محسوبة، وحسابات الكلمة تختلف باختلاف مواقعها ومن قيلت فيهم ومن قيلت لهم، وعندما تكون في بيتك وبين أبنائك وبناتك متحرراً من قيود المسؤولية وأنظار الناس إليك يمكنك أن تتخف أو حتى تستخف لا بأس، فأنت في دارك مستور عن عيون الآخرين، ولكن عندما يكون الخطاب عاماً وموجهاً إلى جماهير الناس عبر شاشات التلفاز، ومنقولاً للكافة من البشر، يفترض أن تخضع العبارات كلمة كلمة وربما حرفاً حرفاً لقواعد من الضبط في الصياغة ودلالات المفردة اللغوية؛ لأن الكلمة لها صخب وضجيج، وبعض الكلمات ملغمة، وتحدث مثل دوي المتفجرات ما لم تكن مضبوطة اللفظ ومحددة في المعنى، ومن ثم يجب أن تخضع ليس فقط للمراجعة اللغوية، وإنما لحساب المآلات حتى لا يلتبس معناها على الناس وتستعمل في التأويل الفاسد فتميل مع الهوى وتحيف مع الشنآن.
وقديما قال أبو الطيب المتنبي:
لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
ولذلك تحرص الهيئات المحترمة أن يكون لدى المسؤول عنها خبراء استشاريون يخدمونه ويقدمون له العون والنصيحة، ويشرفون على ما يصدر منه للناس حتى تظل مهابة الموقع في شخص المسؤول أمام الناس مصانة ومحترمة.
وقد أخبرنا الجنرال “السيسي” من قبل مبرراً صمته الواضح بين كل كلمة وأخرى؛ أن الكلمات لديه تخضع للتفكير والدراسة، وتمر قبل النطق بها بـ”فلتر” الصدق و”فلتر” الحق و”فلتر” الأمانة.
ومن منطلق القيم الثلاث أو “الفلاتر” الثلاثة بلغته هو، الصدق والحق والأمانة نود أن نقدم له ما سكت عنه الآخرون ممن كانوا معه حين تعطلت “الفلاتر” لديه وخاض فيما لا علم له به أو ورطه فيه من كتب له الخطاب المشؤوم.
أخطر ما جاء في ذلك الخطاب هو وصف الأمة كلها عن بكرة أبيها وبكل ملاينها التي تبلغ 1.6 مليار إنسان أنهم يعتنقون فكراً مقدساً يحرضهم على قتل الآخرين لكي يعشوا وحدهم!
ثقافتي الإسلامية المتواضعة التي كونتها دراستي الأزهرية منذ نعومة أظفاري وحتى نهاية الدكتوراه تمنحني يقيناً بأن المقدس لدينا وعلى مدار 14 قرناً من الزمان هو القرآن الكريم والسُّنة النبوية الصحيحة وحدهما، وما عداهما فكر بشري يحترم ولكن لا قداسة له فيؤخذ من صاحبه ويرد عليه مهما كان موقعه العلمي، وقد أجمعت الأمة على ذلك وليس هناك منازع واحد في هذا الأمر، فأين الفكر المقدس الذي يحرض مجموع الأمة ذات 1.6 مليار على قتل بقية المليارات السبعة ليعيشوا وحدهم كما تحدث عنه الخطاب؟
الكارهون لدين الله والذين يريدون التخلص من الإسلام ولو بالتقسيط المريح هم فقط الذين ينظرون إلى الوحي المعصوم قرآناً وسُنة على أنه ظاهرة تاريخية تجاوزها الزمان والمكان، ومن ثم فالناس في عصرهم الحاضر أو المستقبل غير ملزمين بالنظر إليه أو بالنظر فيه، فهل كاتب هذا الكلام أو قائله واحد منهم؟
صفة “المقدس” التي جاءت في الخطاب ليست دقيقة، وإنما أراد بها كاتب الخطاب “الإرهاب”، وعلى ذلك فالوصف خطير ومستفز؛ لأنه يشمل بهذا الوصف كل المسلمين في كل بقاع الأرض وليس هذا الادعاء صحيحاً.
على أقصى درجات حسن الظن، نفترض أنه أراد التطرف والإرهاب الذي تمارسه بعض الجماعات وليس مجموع الأمة، ومن ثم فليس من الدقة وصف المليار وستمائة مليون مسلم بهذا الوصف المشين والذي لم يجرؤ عليه أعتى الكارهين للإسلام والمسلمين في العالم.
ثم أليس من الأجدى والأنفع أن نناقش ظاهرة العنف مناقشة علمية بعيدة عن الميل المندفع نحو الإخضاع والسيطرة؟ وأن نتعرف على أسبابها ودوافعها وبواعثها والبيئة التي تستوطنها وتنمو فيها؟ وما الأسباب التي جعلت من الوطن العربي والإسلامي مستوطنة للتطرف الديني وبيئة حاضنة له؟ وهل من تلك الأسباب استمرار الدكتاتوريات وسياسة القمع واغتصاب السلطة بالقوة عن طريق الانقلاب وإلغاء إرادة الناس في الاختيار الحر؟
ذلك هو الواجب حتى نتمكن من فهم جذور الظاهرة بدلاً من الهروب بكلمات ملتبسة وتحميل الآخرين وزر الاضطرابات والقلق والكراهية السائدة، وتسويق الذات للغرب بوصفها معتدلة يمكن الاعتماد عليها في قمع كل ما هو إسلامي، أحسب أن من كتب له الخطاب أراد أحد أمرين كلاهما خطير.
الأول: أنه أراد أن يقدم الجنرال “السيسي” للغرب على أنه “أتاتورك العرب” الجديد والذي على يديه يمكن أن تسقط كل فكرة إسلامية مهما كان مصدرها في الاعتدال والوسطية؛ ومن ثم فعلى أثر الرسالة يخف الضغط وتتوقف التلميحات بوقف الضخ المالي الذي بدأ مع انخفاض أسعار النفط، ثم تكون المساعدات والدعم بغير حدود أو قيود، مباشرة من السادة الكبار، أو عن طريق الوكلاء المعتمدين في الصرف الآلي والإنفاق الذي يريده السادة الكبار في عواصم العرب الأجاويد.
الثاني: أن كاتب الخطاب ربما يكون متواطئاً مع أصحاب التسريبات الغريبة؛ ومن ثم فقد أراد أن يضع الرجل في مواجهة مع العالم الإسلامي كله، وأن يكشف للدنيا كلها أن وصف الإرهاب لا يتوقف عند الجماعة التي تعارض الرجل وتنازعه مكانه وموقعه، وإنما ثقافته عدائية للأمة كلها لا فرق فيها بين مسالم ومعتدٍ، ولا فرق فيها بين وسطي ومتطرف، وحتى المؤسسات الدينية التي أمَّمها ووقفت معه في الانقلاب لم تعد في مأمن من الوصف بالتعصب والجمود والتخلف، ولعل حالة السعار الإعلامي والثقافي التي تعرض لها الأزهر شيخاً ورجالاً من كتَّاب الصحف والفضائيات وغضب منها شيخ الأزهر كانت هي المقدمة لبدء عملية الاستفزاز وصناعة الأزمة.
الخطاب المثير للجدل لم يحظَ باعتراض ممن حضروه من شيوخ الانقلاب، ولم يتوقع أحد من العقلاء أن يكون لديهم اعتراض رغم عموم الوصف حتى عليهم.
الرجل من دهائه أدخلهم شركاء له في توجيه الاتهام لكل الأمة حين أقسم أنه سيحاججهم أمام الله تعالى يوم القيامة ما لم يشتركوا معه في رؤيته.
المشكلة أن الاتهام طال كل مسلم حتى في مجتمع المهجر وكونه يصدر من مسؤول له مثل هذه الصفة يزيد الأمر تعقيداً؛ لأنه يجعل مسلمي المهجر وأغلبهم نماذج ناجحة محل ريبة، ويحول أنظار الآخرين إليهم من نماذج مشرفة ومعطاءة إلى النظر إليهم وكأنهم ذئاب بشرية تنقض على فرائسها متى سنحت الفرصة.
الوصف الذي ورد في الخطاب بعمومه لم يجرؤ أحد لا من خصوم الإسلام ولا حتى من أعدائه على إطلاقه بهذا الشمول وعلى كل الأمة، الأمر الذي يجعل الآخرين يستقبلونك قائلين: وجودك غير مرحب به، أيها المسلم عُدْ من حيث جئت فقد أصبحت إرهابياً!
بركات الثورة الدينية التي طالب بها الجنرال بدأت بشائرها، فقد توجه مذيع مسيحي باللوم لكل المسلمين على سكوتهم طوال 1400 سنة، ثم طالب بتنقيح القرآن الكريم كخطوة ثانية، وختم باقتباس من كلام الجنرال موجهاً حديثه لشيخ الأزهر: “طول ما أنت فيه مش حتقدر تشوفه.. لازم تخرج منه علشان تشوفه”، فإذا كان المرء لا يستطيع رؤية تلك المقدسات الضالة وهو داخلها ولابد من الخروج من هذه النصوص حتى يراها المرء؛ فكيف رآها صاحبنا الذي يطالب بثورة دينية؟ هل خرج منها “السيسي” حتى يراها؟
ثم كيف سيرى شيخ الأزهر هذه النصوص المقدسة وهو بداخلها؟ هل لابد من الخروج منها حتى يراها؟ هكذا قال المذيع متوجهاً لشيخ الأزهر ومتطاولاً كما جاء في فيديو تداوله نشطاء على موقع “يوتيوب” ونشرته جريدة “المصريون” اليوم الأربعاء 7 يناير 2015م، فما رأي الإمام الأكبر ودار الإفتاء يا ترى؟
مع شديد الأسف المؤسسة الدينية تنازلت عن موقعها التي يجب أن تكون فيه ورضيت بموقعها التي اختارته حين تحولت إلى بوق للسلطان الجائر والحاكم المستبد، وبدلاً من الوقوف بجانب الشعوب المقهورة والانتصار لمبادئ الحرية والعدل وكرامة الإنسان أعاد لنا شيوخ العسكر الصورة الكئيبة لـ”راسبوتين” رجل الدين المبرر والمحلل والمشارك للطاغية في كل مظلمة والشريك له في كل إثم وجريمة.
خسارة المجتمع كبيرة ومضنية ومكلفة حين يكون الديني تابعاً والسياسي متبوعاً، وفي عصرنا الحديث رجل السياسة “صاحب الجلالة والفخامة والسيادة والسمو” – أطال الله عمره – ينظر إلى مولانا الديني – غفر الله له – نظرة استخفاف ولا يرى السياسي في الديني إلا تكملة للديكور الذي تحتاجه الدولة من حيث الشكل فقط.
صورة الفسيفساء الدينية قلما يتذكرها الحاكم أو يلتفت إليها أو حتى تخطر له على بال إلا عندما يفقد النظام عزيزاً يريد أن يواريه التراب، أو أن يُطل على شعبه بطلعته البهية في مناسبة من المناسبات الدينية.
حالة أخرى كذلك يكون للفسيفساء الدينية دور كبير فيها وتحتاجها الدولة لتقول كلمتها، وهي عندما يكفهر الجو السياسي وتتلبد سماء الوطن بغيوم الغضب الشعبي، حينئذ يكون لتلك الفسيفساء أو الرمز الديني كلمته في تهدئة الخواطر وتسكين الغضب العام، هنا أيضاً تستخرج النصوص – بعملية انتقاء خبيث ومدلس – لتوظف الدين في تدعيم الدكتاتور الطاغية، وتخفيف الضغط عليه بحديث عن حرمة الخروج على الحاكم، وإن جلد الظهور وأكل الأموال وأفسد البلاد وأهان العباد، وهكذا الطاغية السياسي يستعمل الرمز الديني في خدمة طغيانه وتكريس نظامه وتدعيم دولة الظلم، فعلى الرموز الدينية أن تنأى بنفسها عن السقوط أو السكوت، وألا يجعلوا من أنفسهم مطية لحاكم ظالم، وأن يدركوا أن ما يحملونه من علم هو أعلى وأغلى من كل ما تمتلئ به خزائن الحاكم الطاغية من مال مسروق ومغصوب ومهرب في خزائن البنوك الأجنبية.
وعلى العلماء أن يتذكروا أن أمر الصلاح والإصلاح لا يستقيم بعوجهم ولا يقام بتفريطهم، وكما قال الإمام على عليه السلام: “لاَ يُقِيمُ أمْرَ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ إلاَّ مَنْ لاَ يُصَانِعُ وَلاَ يُضَارِعُ وَلاَ يَتَّبِعُ اَلْمَطَامِعَ”.