كثيراً ما نقع رهائن الماضي، أسرى لانتصاراتنا الأخيرة، كثيراً ما تكون عوائقنا هي أفكارنا، إنها الحرب الأخيرة، أو تلك المعركة الأخيرة التي انتصرت بها، فتظل أسير هذا الانتصار وتكرر نفس الإستراتيجية التي كانت سبباً في انتصارك كلما دخلت معركة جديدة، هنا لابد أن تشن حرباً على ذاتك، أن تهدم تلك الأفكار حول الماضي، وتبنى مسافات بينك وبين الحرب الأخيرة.
إن انتصارك في معركة أو صراع ما باستخدام تكتيك معين لا يعنى هذا أن تستخدم نفس التكتيك كلما دخلت معركة، قد يصبح هذا الانتصار أكبر عائق لك فيمنعك من الانتصار مجدداً، سيشكل حاجزاً بينك وبين التفكير الاستراتيجي المجرد من الماضي، سيمنعك من دراسة الظروف الحالية ومعرفة التكتيك الأمثل، فالعقل البشرى يستسهل استخدام ما هو مجرب ومعروف، يعود بك إلى خبرتك الماضية ويستحضر الطريقة الأسهل أو المضمونة، في حين أن ظروف المعركة قد تغيرت وتكتيكك المنتصر مؤخراً بات قديماً.
يقول روبرت جرين في كتابه “33 إستراتيجية للحرب”: أعظم الجنرالات والإستراتيجيين الخلاقين لا يتفوقون بسبب امتلاكهم معارف أكبر، بل لأنهم قادرون عند الضرورة على التخلي عن مفاهيمهم السابقة والتركيز بكثافة على اللحظة الراهنة.
فعندما سئل نابليون بونابرت عن مبادئ الحرب التي اتبعها، أجاب أنه لم يتبع أي مبادئ، كانت عبقريته تكمن في التجاوب مع الظروف، فالمقاتل الاستراتيجي ليس لديه قواعد ثابتة في التفكير، ولا يستند إلى نظريات ثابتة، فالنظريات والقواعد فقط تمنحك رؤية أوسع للأمور لكنها لا تشكل قرارك في النهاية، فقط أنت من يضع الإستراتيجية الأمثل للتعامل وفقاً للموقف الحالي وبشكل منعزل عن كل المواقف الماضية.
من التاريخ
في العام 1605م، كان هناك شخص يدعى موساشي، وكان ساموراي صنع لنفسه شهرة كسياف ماهر وهو في العشرين من عمره، وقد تحداه شاب يدعى ماتاسيشيرو وهو من قبيلة مشهورة بالقتال بالسيف، وقد كان موساشي قد هزم والده من قبل وقتله، وفي مباراته مع والده كان قد جاء متأخراً ليغضب خصمه، لكنه في تلك المباراة مع ماتاسيشيرو جاء مبكراً عن موعده واختبأ بين الأشجار، وفي الموعد جاء ماتاسيشيرو وهو يفكر في أن خصمه سيأتي متأخراً عن موعده، لكن تلك الخدعة لن تخدعه فهو يعرفها جيداً، وبمجرد أن جلس ممتداً على الأرض، حتى خرج موساشي من بين الأشجار مهاجماً إياه وهو يقول: لقد انتظرتك طويلاً، لقد كانت المفاجأة مربكة لماتاسيشيرو فقتله موساشي وانتصر.
لم يلجأ موساشي للتكتيك السهل والمجرب، لقد درس الموقف جيداً وعرف ما يجب فعله هنا، لقد فاز موساشي في كل المبارزات التي دخلها حتى لم يبقَ له منافس، باختصار اعتمد منافسوه على تقنيات بارعة، لكنها مكررة، فمن يستخدم سيفاً طويلاً يجعله في مأمن عن خصمه كان يكرر ذلك مع كل منافسيه، إنهم يخوضون الحرب الأخيرة، في حين أن موساشي لم يفعل ذلك، لقد اهتم بكل معركة على حدة، لم يخض الحرب الأخيرة مطلقاً، فقط كان يدرس الموقف ويتعامل وفقاً للظروف الحالية.
من الحاضر
كونك ربحت معركة إعلامية بتدشين حملة مستخدماً “السوشيال ميديا” ضد خصمك لا يعني أن تفعل ذلك في كل معركة منتظراً النجاح، أو كونك اعتمدت أسلوباً في الحشد السياسي أصاب هدفه في معركتك يعني ذلك أن هذا التكتيك لابد أنه الأصوب في كل المعارك، أنت هنا تخوض الحرب الأخيرة، فتظل أسير أفكارك.
كمقاتل إستراتيجي لابد وأن تتمتع بقدر كبير من المرونة، ليست لديك قواعد في التفكير، فقط تحتاج أن تتخلص من الخرافات والأفكار الخاطئة، فالإستراتيجية ليست مسألة تعلم سلسلة من الأفكار أو الحركات التي يمكن اتباعها للخروج من أزمة أو الانتصار في معركة، فليست هناك وصفة جاهزة أو معادلة سحرية لتحقيق النصر، فالأفكار والخبرات والأمثلة التاريخية ليست سوى مغذيات تقبع في ذهنك؛ لذا دعك من كل هذا وتعلم كيف تصبح مفكراً إستراتيجياً تصنع الإستراتيجية الخاصة بك.
وفيما يلي عدة خطوات تساعدك على اكتساب بعض التكتيكات التي يمكنها مساعدتك على الاحتفاظ بالتدفق الطبيعي للعقل:
– حطِّم صنمك:
إن إيمانك بأن الإستراتيجية لديها قوانين ثابتة ومواقف متجمدة يعني أنك تتحرك نحو الفشل، فليست هناك تكتيكات ثابتة وغير خاضعة للتغيير، أنت من يعرف ما يجب فعله وفقاً للظروف، حطِّم تلك الأصنام التي تملأ عقلك، انتهِ منها وفكر في حلول أكثر تناسباً مع الموقف.
– كن أكثر مرونة:
كن مرنا في تقبل المعلومات الجديدة، لا تجعل ما تعلمته يعيقك عن استقبال المعلومات الجديدة، فتركيزك على القواعد القديمة التي تعلمتها يجعلك لا تجيد استقبال الموقف الحالي، فأنت تركز على المعركة الماضية بدلاً من التركيز على المعركة الراهنة، فمن الأفضل أن تتخيل أنك لا تعرف أي شيء، سيجعلك هذا تستقبل بشكل أفضل، فأنت بحاجة لأن تتعلم ما هو جديد.
– قف في المربع “أ” من جديد:
لا تجعل الانتصار في معركة يأسرك، دائماً تعامل مع كل معركة كأنها المعركة الأولى، كان لاعب البيسبول الأمريكي تيد ويليامز وهو أحد أعظم الرماة في تاريخ اللعبة، كان ينسى دائماً آخر رمياته سواء أصابت أو فشلت، بالنسبة إليه ليست هناك رميتان متشابهتان حتى لو كان متلقي الرمية شخصاً واحداً، فقط يجب أن تركز على تفاصيل الحاضر وتنسى الماضي كي تصيب الهدف.
– لا تكن ساكناً:
الحياة متحركة لا تتوقف، فلا تقف أنت ساكناً أمام موقف ما أو أفكار معينة، فمن يملك السرعة والحركة لديه فرصة أكبر، تعامل بعقلية طفل وليس كهلاً مترهلاً، ما أن تجد نفسك متوقفاً عند فكرة ما تجاوزها، لا تدع روحك تموت أمام الأفكار البالية، كن متحركاً دائماً، دع ذهنك يكتسب المرونة اللازمة واجعل عضلاتك الإستراتيجية تنمو مع الوقت.
– تجاوب مع طبيعة الزمن:
حين تكون متمسكاً بقواعد قديمة مؤمناً بها، تعتمد على أساليب محددة في التعامل، فتوقع أن منافساً أكثر مرونة يعتمد أساليب أكثر حداثة سوف يجعلك تخسر كل شيء، لأنك باختصار لم تتجاوب مع طبيعة الزمن المتغيرة، حدث ذلك في معارك تاريخية التقى فيها الماضي مع المستقبل ليلقى هزيمة كبرى، كحروب الفرس والبيزنطيين مع جيوش المسلمين التي اعتمدت أسلوب قتال جديداً، فأساليبك التي تعتقد في جدواها لن تصبح مجدية مع مرور الزمن.
– لا تكن متوقعاً:
إن أخطر ما يكون في المنافسة أو الصراع، هو أن تكون ردود أفعالك متوقعة لخصمك، فحين تكون ثابتاً وتعتمد أفعالاً محددة ويمكن لخصمك أن يتوقع ردود أفعالك، فإنك تلقي بنفسك مستسلماً في قبضته، التفكير الإستراتيجي لا يجعلك متوقعاً، بل تكون ردود أفعالك مبنية على ظروف المعركة وليست مبنية على ماضيك.
إن أصحاب الأفكار والقضايا وأصحاب المشروعات الكبرى، من يتعاملون مع خصوم ومنافسين لا تهدأ حياتهم من المعارك والمنافسات، لذا ينبغي أن تمرن عقلك على كيفية التفكير الإستراتيجي، أن تكون لديك إستراتيجياتك الخاصة، أن تحلل موقفك وتعرف خصمك وتبنى رد فعلك بشكل مناسب وليس فقط وفقاً للقواعد المحفوظة، فالحرب الأخيرة وقواعدها لن تفيدك في الحرب الراهنة.
المصدر: “يقظة فكر”.