لم تنتهِ قضية الجندي “الإسرائيلي” جلعاد شاليط الأسير السابق لدى “كتائب القسام” بمجرد توقيع اتفاقية تبادل الأسرى عام 2011م والتي أجبرت فيها “القسام” سلطات الاحتلال الصهيوني على الإفراج عن 1047 أسيراً وأسيرة مقابل الإفراج عن الجندي جلعاد شاليط، بل يبدو أن تفاصيل هذه الملحمة التي سطرتها “كتائب القسام” عام 2006م, وخباياها تظهر شيئاً فشيئاً بعد عملية الإفراج؛ وهو ما جعل تأثير هذه العملية على الكيان الصهيوني وجنوده مستمراً إلى هذا الوقت.
ما سُمح بالنشر
جديد ما كشفته “كتائب القسام” حول تلك العملية هو ما يتعلق بهويات المجاهدين الذين أُوكلت لهم مهمة احتجاز الجندي الأسير جلعاد شاليط، وذلك بعد استشهاد آخر هؤلاء المجاهدين الخمسة الذين كانوا في تلك المهمة الأمنية الدقيقة، وهو الشهيد عبدالرحمن المباشر الذي استشهد داخل أحد الأنفاق العسكرية لـ”كتائب القسام” بعد أن انهال عليه النفق أثناء مشاركته في عمليات الحفر والتجهيز.
حيث كشفت “كتائب الشهيد عز الدين القسام” عن دور ثلّة من شهداء “القسام” في عملية احتجاز الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، وذلك بعد أن أصدر القائد العام للكتائب محمد الضيف قراراً بالسماح بنشر هذه التفاصيل، والشهداء هم الشهيد سامي الحمايدة، والشهيد عبدالله لبد، والشهيد خالد أبو بكرة، والشهيد محمد رشيد داود، وآخرهم الشهيد عبدالرحمن المباشر.
لم يكتفوا بمهمتهم
وما يستدعي الانتباه أن جميعهم استشهدوا في مهمات عسكرية، أو أثناء المواجهات مع جنود الاحتلال الصهيوني في الحروب السابقة التي شنها على قطاع غزة، ويتضح من ذلك أن هؤلاء المجاهدين لم يكتفوا بالمهمة التي أتمّوها بكل نجاح وأدوها بأمانة تامة، وإنما مارسوا عملهم في مهمات عسكرية أخرى.
كما نشرت “الكتائب” على موقعها ضمن ما هو مسموح به للنشر صوراً جديدة للجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط أثناء فترة أسره، ومقطع فيديو قصير يظهر فيه الشهيد عبدالرحمن المباشر مع الجندي “الإسرائيلي”.
وإن كان الخبر الذي كشفته “كتائب القسام” قد فاجأ المواطنين، ولا سيما أصدقاء الشهداء الخمسة وزملاءهم، إلا أنه مثّل صدمة لذويهم وعائلاتهم الذين عاشوا معهم أكثر من غيرهم دون أن يعرفوا أدنى معلومة حول ما يتعلق بمهمة حراسة الجندي “الإسرائيلي” جلعاد شاليط التي قاموا بها.
السرّية والكتمان
“المجتمع” توجهت نحو بيت أحد هؤلاء الشهداء الخمسة وهو بيت الشهيد عبدالرحمن المباشر؛ لتتعرف عن قرب على حياة ذلك المجاهد الذي أخفى على أهله أخطر مهمة وأدقّها.
وتجيب زوجة الشهيد عبدالرحمن المباشر عن سؤال “المجتمع” لها إن كانت على علم بما كان يقوم به بالقول: رغم أن علاقته في البيت كانت قوية جداً، وكانت معاملته معنا حسنة، ولم يكن يخفي عنا شيئاً من أمور حياته، إلا أنه كان حريصاً على عدم الحديث في مجاله العسكري والبوح بطبيعة عمله، ولذلك كان تلقينا للخبر بأن عبدالرحمن كان ممن يحتجزون شاليط بمثابة الصاعقة التي نزلت علينا، وجميعنا استغرب وتساءل: كيف أخفى عنا هذا الأمر؟ وكيف استطاع أن يحتفظ بهذا السر الكبير؟
وتضيف زوجة الشهيد المباشر: كان لديَّ إحساس بأن عبدالرحمن يقوم بمهمة عسكرية خطيرة جداً، وقادني إحساسي إلى الشك في أنه ممن قاموا باحتجاز شاليط، فبُحت له ذات مرة بالأمر لكنه أخذ كلامي على محمل السخرية، وقال لي: أنا إنسان بسيط جداً، فكيف أكون في تلك المهمة الكبيرة, ولكني كررت له هذا الشعور الذي يخالجني فكان عندما أحدثه بذلك يلفّ بنفسه ويبتسم ابتسامة غريبة.
أما والده أبو رياض المباشر فيقول لـ”المجتمع”: كنا نعرف أن عبدالرحمن يغيب عن البيت مدة طويلة تصل أحياناً إلى خمسة أيام متوالية، وكنا نستغرب من هذا الغياب! وعندما نسأله يقول لنا: إن العمل العسكري يتطلب هذا، دون أن يبوح لنا بأي حرف بطبيعة عمله، ولم نكن نعلم أن غيابه المتكرر عن البيت كان بسبب مشاركته في احتجاز شاليط.
وعن علاقته بأهله ومعاملته داخل البيت يقول والد الشهيد: كان من أبرّ الناس بآبائهم، ولم تكن انشغالاته تلهيه عن تلبية احتياجاتنا، فكان عندما يشعر أننا نريد شيئاً ما يلبيه لنا قبل أن نطلبه منه.
أما زوجته فتقول: كان عبود دوماً يقول لي: أتمنى يومياً أن أقدم لأبي وأمي طعام العشاء بنفسي، وكان يوصيني بهم ويقول لي: راحتي من راحتهم وسعادتي بسعادتهم.
واسع الفكر
“كان عبود مفكراً من الطراز الأول”.. بهذه الكلمات بدأ رياض المباشر، شقيق الشهيد عبدالرحمن، حديثه لـ”المجتمع”، مضيفاً أن أي مشكلة كانت تعترض عمال الأنفاق أثناء الحفر كانوا يتصلون به ليدلهم على فكرة معينة تساعدهم على حل العقبات التي تواجههم، حتى إننا أطلقنا عليه بعد ذلك لقب “أبو فكري” من شدة اتساع مداركه، ورجاحة عقله، وقوة أفكاره.
ويضيف شقيق الشهيد أن عبدالرحمن كان تقياً ومخلصاً في عمله، ولم يكن من طلاب الشهرة والسمعة، أو المرائين في عملهم، كما أنه كان كتوماً جداً لا أحد يستطيع أن يأخذ منه أي معلومة.
وتختم زوجة الشهيد عبدالرحمن المقابلة بقولها: لو أن الشباب صاروا على نهج عبدالرحمن في إخلاصه وتقواه وكتمانه للسر, لأصبح تحرير الأقصى قاب قوسين أو أدنى.
يستحقون التكريم
وتعليقاً على نجاح المجاهدين في الاحتفاظ بالأسير “الإسرائيلي” جلعاد شاليط، والأمانة التي تحلّوا بها خلال مدة الاحتجاز، يقول المؤرخ والروائي الفلسطيني أسامة الأشقر: لقد ضرب هؤلاء المثل الأعلى في السرية والجدية والالتزام، والمثل الأعلى في الاحتراف الأمني والعسكريّ في منطقة مكشوفة أمنياً، وساقطةٍ بالمفهوم العسكري والأمنيّ.
ويضيف الأشقر في حديث لـ”المجتمع”: لقد بات معروفاً اليوم أن هؤلاء يستحقون تكريماً استثنائياً بالإعلان عنهم، حيث إنهم كانوا سبباً في تحرير أكثر من ألف نفسٍ طاهرة زكيّة من سجون العدو.