المراجعة في اللغة على وزن المعاودة لفظاً ومعنى.
تتبعت الآيات التي وردت فيها مشتقات “رجع” في كتاب الله، فوجدت غالبيتها العظمى جاءت لتدلل على المعنى الإيجابي المرغوب فيه، وقد وردت في أكثر من 110 مرات.
فقد جاء في سورة “الملك”: (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ {3}) (الملك).
وفي سورة “يوسف” وردت مراراً ومنها: (لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ {46}) (يوسف)، (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {62}) (يوسف).
وجاء أيضاً قول الله تعالى: (لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {68}) (الأنفال).
وقوله تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى {1} أَن جَاءهُ الْأَعْمَى {2} وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى {3}) (عبس).
وكذا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لو استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كذا وكذا”.
وقوله: “يبعث الله على رأس كل مائة عام لهذه الأمة من يجدد لها دينها”, وهذا في أمور الدين، فما بالك في الإداريات في الدنيا؟
وقوله: “لولا عمر لهلك الناس”, في أسرى بدر، وهكذا.
المراجعة ليست تراجعاً، المراجعة نقد ذاتي أُمِرنا به أمراً، فمن استوى يوماه فهو المغبون.
وفقه الفاروق “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم”.
المراجعة تعني التدقيق والفحص ثم التصحيح والانطلاق.
المراجعة تقع في دائرة الحديث الشريف: “يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين”.
منْ أحوج منا وأبصر وألزم بالمراجعات الدائمة نحن في الحركة الإسلامية؟
ليس منا في الغالب إلا و بنى بيتاً أو استأجره ليسكن فيه, فهل ترك أو غفل عن التدقيق فيه من الخارج وبكل تفصيلاته، وغيّر وبدل وتدخل في التفصيلات، وعدّل على الموجود, وحتى لو كان مستأجراً، وتأكد من مواصفات معينة وأضاف وحسّن وجوّد ما استطاع.
وماذا يفعل البناؤون والمهندسون بعد بناء مدماك أو مدماكين إلا النظر من زوايا متعددة للبناء وتفقده في مراحله المختلفة, ويكون استلام المبنى بالتدريج بعد كل مرحلة انجاز, كما يتم فحص المباني بعد كل زلزال أو بعد مضي مدة من الزمن على البناء أو عند بيعها لتقدير كفاءتها.
ما أحوج الجادين وأصحاب المشاريع الكبيرة للتدقيق والمراجعة!
ألم يقسم الله تعالى بالنفس اللوامة ويذكرها في موضع المدح؟ (ولا أقسم بالنفس اللّوامة).
وقد كان جبريل يعارض (يراجع) رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن في كل عام، وراجعه مرتين في العام الذي قبض فيه.
وكما أن الفرد بحاجة لمراجعة مسيرته بل وعمله اليومي في نهاية كل يوم لأنه يقع في الأخطاء والخطايا، والإنسان يجتهد وقد يصيب وقد يخطئ في تقديره للأشياء، قال تعالى: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {216}) (البقرة)، ولذلك فهو بحاجة لمراجعة دائمة وهو فرد.
وكذلك فالجماعات والأحزاب والدول من باب أولى, والله تعالى يقول: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ {155}) (الأعراف).
إن الحركة الإسلامية اليوم أحوج ما تكون لمراجعات عميقة وجوهرية، لا لإعادة النظر في الإسلام كما يحلو للبعض أن يتعجل, ولا للاستسلام للإملاءات, وليس من باب الهزيمة، إنما لئلا تضيع الجهود التي قدمها المؤسسون الأوائل ومن جاء بعدهم على مدى عقود طويلة, ولإعادة ترتيب أمورها وفق المستجدات والمتغيرات الدولية والإقليمية والمحلية والأحداث المتسارعة.
ليست المراجعات الفردية فقط، وإنما مراجعات منظمة من خلال مؤتمرات علمية منظمة ولقاءات مطولة هادفة وجريئة، تتبعها قرارات سليمة.
إن الذي لا يجدد مفاهيمه ويحسنّها ويطورها, ويجدّد وسائله وأدواته وأساليبه سيصبح غريباً لا ينسجم معه أحد في المجتمع، وكأنما هو من عالم آخر.
ليس هناك أدنى شك أنّ هذا الدين الخاتم العظيم، لابد وأن يكون صالحاً للبشرية حتى قيام الساعة, ولا يصح أن يعتريه النقص، فقد قرر القرآن الكريم: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) (المائدة:3)، فالمشكلة في فهمنا وقدرتنا على استيعاب النصوص الثابتة ووضعها في مكانها الصحيح، وكيفية التعامل معها، وعدم تحميلها ما ليس منها, والنقص ليس فيها إنما فينا نحن المتعاطين معها فقط, وهذا الذي نعنيه بالتدقيق والمراجعة، ألم يقل أبو بكر الصديق رضي الله عنه لجمهور الصحابة: يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَؤونَ هَذِهِ الآيَةَ، وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَا وَضَعَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (المائدة:105)، إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ؟
وهل ضر عمر رضي الله عنه أن قال: أخطأ عمر وأصابت امرأة, في موضوع تحديد المهور؟
المراجعة تكون ناجحة إن شملت تصحيح مناهج التفكير والنظر والمنطلقات والقواعد المعتادة لتأكيدها أو تصحيحها أو تعديلها أو تطويرها.
وأخيراً؛ هل المراجعة الجادة بحاجة لأدلة وإقناع وتسويغ؟