لقد شهدت الدولة العربية والإسلامية كغيرها من دول العالم محطات تحول وتغيير متسارعة، أدت إلى التأثير في بعض القيم والمعتقدات والمبادئ والعادات والتقاليد، كما شملت بعضاً من جوانب الحياة الاجتماعية، والثقافية، والمعرفية، والاقتصادية، والسياسية؛ مما أثر على كيان المجتمع واستقراره وتماسكه، وبالتالي نتج عن ذلك اتجاهات معينة، وأنماط تفكير تهدد القيم والعادات والتراث والهوية الوطنية للدول والموروث الاجتماعي، وبروز قيم جديدة لا تتفق مع سلوك وطبيعة مجتمعاتنا، وبالتالي تضعف الانتماء للوطن، وتعمل على تفتيت الموروث التاريخي والاجتماعي للشعوب الإسلامية.
كما تلقي هذه التغيرات بظلالها على مجالات الحياة العامة للمجتمع، ويتطلب الأمر تحركاً سريعاً من قبل الدولة، ومؤسساتها خاصة في المجال التربوي، وذلك من خلال إعداد وتزويد الطلبة بالمعارف العلمية، والتربية على فهم التراث، والاعتزاز بالموروث التاريخي، والاجتماعي، والديني، وإتقان اللغة، ومهارات التواصل اللغوي، والانفتاح على الثقافات الأخرى، وبالتالي نكون قادرين على التفاعل مع حاجات المجتمعات، ومن هنا يجب على الدول العربية والإسلامية السعي للحفاظ على هويتها باعتبارها من أهم موروثها الديني، والاجتماعي، والتاريخي؛ الذي يعتبر من القيم والمبادئ الأساسية للمجتمع، ومن خلال غرس وتنمية مفهوم المواطنة بين المواطنين في المجتمع، وإعدادهم للمواطنة الصالحة[(1)].
المواطنة كما يقرؤها الآخرون
أ. المواطنة بمفهومها السياسي:
هي عقد اجتماعي بين المواطن الفرد والدولة تحمله من مؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية وإدارية، وبذلك تكون العلاقة علاقة مشاركة بين الطرفين بأسلوب حضاري وتنظيمي.. ويعني انتساب الفرد لكيان معين، يكون مندمجاً من خلاله شاعراً بالأمان فيه ومعتزاً بهويته، وفي ذات الوقت منشغلاً بقضاياه، وعلى إدراك بمشكلاته، وملتزماً بقوانينه وقيمه، ومراعياً للصالح العام، ومحافظاً على مصالحه وثرواته، غير متخلٍّ عنه في أوقات الأزمات والمحن[(2)].
والمفهوم الحديث للمواطنة يعتمد على الاتفاق الجماعي القائم على أساس التفاهم من أجل تحقيق ضمان الحقوق الفردية والجماعية، كما أن المواطنة في الأساس شعور وجداني من خلال الارتباط بالأرض، وبأفراد المجتمع الآخرين الساكنين على الأرض، وهي –بهذا المعنى – لا تتناقض مع الإسلام؛ لأن المواطنة عبارة عن رابطة بين أفراد يعيشون في زمان ومكان معين، أي: جغرافية محددة، والعلاقة الدينية تعزز المواطنة.
كما أن المفهوم الحديث للمواطنة تطور مع الدولة الحديثة؛ التي تعتبر بنفسها المطلقة داخل حدودها، وأن أوامرها نافذة على كل من يقطن داخل تلك الحدود الجغرافية، ولكن ومن أجل منع استبداد الدولة، وسلطاتها، فقد نشأت فكرة المواطن الذي يمتلك الحقوق غير القابلة للأخذ، أو الاعتداء عليها من قبل الدولة، فهذه الحقوق هي حقوق سياسية تتعلق بالمشاركة في اتخاذ القرار السياسي، وحقوق جماعية ترتبط بالشؤون الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية[(3)].
ب. المواطنة في العلوم الاجتماعية:
يعرف بعض المتخصصين في العلوم الاجتماعية المواطنة على أنها مجموعة الالتزامات المتبادلة بين الأشخاص والدولة، فالشخص يحصل على بعض الحقوق السياسية والمدنية نتيجة انتمائه إلى مجتمع سياسي معين، وعليه في الوقت نفسه أن يؤدي بعض الواجبات[(4)].
بمعنى أنها تشتمل على العلاقة بين الأفراد والدولة، مع الامتثال للحقوق والواجبات، وهي تشتمل كذلك على صفات المواطن ومسؤولياته، وتتميز المواطنة بوجه خاص بالانتماء إليه وخدمته، والتعاون مع الآخرين من أجل تحقيق الأهداف للدولة، وتتضمن مستوى عالياً من الحرية مصحوباً بالعديد من المسؤوليات[(5)].
ج. المواطنة في الموسوعة السياسية (1990م):
تعرف الموسوعة السياسية المواطنة بأنها: صفة المواطن الذي يتمتع بالحقوق، ويلتزم بالواجبات التي يفرض عليه انتماؤه إلى الوطن[(6)].
د. المواطنة في موسوعة الكتاب الدولي:
المواطنة من خلال تعريف موسوعة الكتاب الدولي هي: عضوية كاملة في دولة، أو في بعض وحدات الحكم، وأن المواطنين لديهم بعض الحقوق، مثل حق التصويت، وحق تولي المناصب العامة، وكذلك عليهم بعض الواجبات مثل: دفع الضرائب، والدفاع عن بلدهم[(7)].
هـ. وجهة نظر بعض المفكرين الإسلاميين في الوطن والمواطنة:
كان الشيخ محمد عبده مع ثورة عرابي المصرية التي قامت ضد الخديوي، وبعد ذلك كانت عنايته بالمجتمع المصري أكثر من غيره، عن طريق إصلاح التعليم العام، وخصوصاً إصلاح الأزهر، وقال كلمته الشهيرة: «يستحيل بقاء الأزهر على حاله، فإما أن يعمر، وإما أن يتمَّ خرابه»، وسمَّاه الأستاذ عباس العقاد في كتابه عنه “رائدالفكر المصري الحديث”.
ولكنهم جميعاً يؤمنون بوطنهم الأكبر: دار الإسلام، ولهذا عملوا على تحريرها من كل سلطان أجنبي، وتوحيدها، والسعي في عودتها إلى الرقي والتضامن والقيادة من جديد. وهكذا رأينا عبد الرحمن الكواكبي في كتابه «أم القرى» الذي تصوَّر فيه مؤتمراً إسلامياً عالمياً يعقد في «مكة المكرمة أم القرى» ليبحث مشكلات الأمة الإسلامية جمعاء، ويقترح لها الحلول المناسبة.
كما ظهر مفكرون آخرون في أقطار شتَّى، اتَّفقت مقاصدهم، واختلفت طرائقهم، ومن هؤلاء: أ. حسن البنا وموقفه من الوطنية والمواطنة:
فقد تحدث عن مفهوم الوطنية في رسالة «دعوتنا» من رسائله الشهيرة، وبين المعاني والمقاصد التي يمكن أن تفهم من هذه الكلمة، وأن منها ما هو مقبول في منطق الإسلام وشريعته، ومنها ما هو مردود ومرفوض، وذلك بسبب ظهور وانتشار هذه المصطلحات الجديدة في المجتمعات الإسلامية، وولع بعض الناس بها، وفهم كلِّ فريق لها بحسب هواه، أو هوى من يسير خلف فلسفتهم.
*ـ الوطنية المقبولة والوطنية المردودة عند أ. البنا:
في رسالة «دعوتنا» يفصِّل القول في الوطنية تفصيلاً، فقد كان الرجل حريصاً على تحديد المفاهيم الغامضة، أو المحتملة لاختلاف الأفهام، وعلى تفصيل المعاني والمصطلحات المجملة، وضبط الكلمات الهُلامية التي يفسِّرها كلُّ فريق بما يمليه عليه هواه، أو تبعيته لفكرة معينة.
قال: افتتن الناس بدعوة الوطنية تارة، والقومية تارة أخرى، وبخاصة في الشرق، حيث تشعر الشعوب الشرقية بإساءة الغرب إليها إساءة نالت من عزَّتها، وكرامتها، واستقلالها، وأخذت من مالها، ومن دمها، وحيث تتألم هذه الشعوب من هذا النِّير الغربي الذي فُرض عليها فرضاً؛ فهي تحاول الخلاص منه بكلِّ ما في وسعها من قوَّة، ومنعة، وجهاد، وجلاد، فانطلقت ألسن الزعماء، وسالت أنهار الصحف، وكتب الكاتبون، وخطب الخطباء، وهتف الهاتفون باسم الوطنية وجلال القومية، حسن ذلك وجميل، ولكن غير الحسن وغير الجميل: أنك حين تحاول إفهام الشعوب الشرقية -وهي مسلمة- أن ذلك في الإسلام بأوفى وأزكى وأسمى وأنبل مما هو في أفواه الغربيين وكتابات الأوربيين؛ أبوا ذلك عليك، ولجُّوا في تقليدهم يعمهون، وزعموا لك أن الإسلام في ناحية، وهذه الفكرة في ناحية أخرى، وظن بعضهم أن ذلك مما يفرق وحدة الأمة، ويُضعف رابطة الشباب[(9)].
وقد تحدث الأستاذ البنا عن وطنية الحنين والعاطفة، ووطنية الحرية، ووطنية المجتمع وخدمته، ووطنية المجد والفتح، وأشاد بها[(10)].
ثم يقول الأستاذ البنا: وأحبُّ أن أنبِّهك إلى سقوط ذلك الزعم القائل: إن الجري على هذا المبدأ يمزق وحدة الأمة التي تتألف من عناصر دينية مختلفة، فإن الإسلام -وهو دين الوحدة والمساواة- كفل هذه الروابط بين الجميع ما داموا متعاونين على الخير: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]. فمن أين يأتي التفريق إذاً[(11)]؟!.
خ- مصر في نظر حسن البنا:
يقول: إننا مصريون بهذه البقعة الكريمة من الأرض؛ التي نبتنا فيها، ونشأنا عليها، ومصر بلد مؤمن، تلقَّى الإسلام تلقياً كريماً، وذاد عنه، وردَّ عنه العدوان في كثير من أدوار التاريخ، وأخلص في اعتناقه، وطوى عليه أعطف المشاعر، وأنبل العواطف، وهو لا يصلح إلا بالإسلام، ولا يُداوى إلا بعقاقيره، ولا يطبُّ له إلا بعلاجه، وقد انتهت إليه بحكم الظروف الكثيرة حضانة الفكرة الإسلامية، والقيام عليها.. فكيف لا نعمل لمصر وخير مصر؟ وكيف لا ندافع عن مصر بكلِّ ما نستطيع؟ وكيف يقال: إنَّ الإيمان بالمصرية لا يتَّفق مع ما يجب أن يدعو إليه رجل ينادي بالإسلام، ويهتف بالإسلام؟
إننا نعتز بأننا مخلصون لهذا الوطن الحبيب، عاملون له، مجاهدون في سبيل خيره، وسنظل كذلك ما حيينا، معتقدين أن هذه الحَلْقة الأولى في سلسلة النهضة المنشودة، وأنها جزء من الوطن العربي العام، وأننا حين نعمل لمصر نعمل للعروبة والشرق والإسلام، وليس يضيرنا في هذا كلِّه أن نُعْنى بتاريخ مصر القديم، وبما سبق إليه قدماء المصريين الناس من المعارف والعلوم، فنحن نرحب بمصر القديمة، كتاريخ فيه مجد، وفيه علم ومعرفة، ونحارب هذه النظرية بكل قوانا كمنهاج عملي، يراد صبغ مصر به، ودعوتها إليه، بعد أن هداها الله بتعاليم الإسلام، وشرح له صدرها، وأنار به بصيرتها، وزادها به شرفاً ومجداً فوق مجدها، وخلّصها بذلك مما لحق هذا التاريخ من أوضار الوثنية، وأدران الشرك، وعادات الجاهلية[(12)].
ب. عبد الحميد بن باديس «الجزائر»:
قال الشيخ عبد الحميد بن باديس مؤسس جمعية العلماء بالجزائر: بهاتين الجملتين منذ نيف وعشر سنين توَّجنا جريدة «المنتقد» الشهيرة، وجعلناها شعاراً لها تحمله في رأس كل عدد منها، هذه أيام كانت كلمة الوطن والوطنية كلمة إجرامية، لا يستطيع أحد أن ينطق بها، وقليل جداً من يشعر بمعناها، وإن كان ذلك المعنى دفيناً في كوامن النفوس ككلِّ غريزة من غرائزها، لا سيما في أمة تُنسب إلى العروبة، وتدين بالإسلام مثل الأمة الجزائرية ذات التاريخ المجيد. أما اليوم وقد صارت كلمة الوطن والوطنية سهلة على كل لسان، وقد يقولها قوم ولا يفقهون معناها، وقد يقولها آخرون بألسنتهم، ولا يستطيعون أن ينتسبوا لها في المكتوب من رسمياتهم، ويفزع منها من يتخيَّلون فيها ما يعرفون من وصيَّاتهم، وينكرها آخرون زعماً منهم أنها ضد إنسانيَّتهم وعمومياتهم؛ فكان حقاً لقرَّاء «الشهاب» علينا أن نقول لهم كلمة مختصرة نبين لهم حقيقة هذه الكلمة وأقسامها، وأقسام الناس إزاءها، ومن أي قسم نحن من تلك الأقسام.
من نواميس الخليقة حب الذات للمحافظة على البقاء، وفي البقاء عمارة الكون، فكل ما تشعر النفس بالحاجة إليه في بقائها فهو حبيب إليها، واستمداد بقائه منهم، وما البيت إلا الوطن الصغير، فإذا تقدَّم شيئاً في سنه اتسع أفق حبه، وأخذت تتسع بقدر ذلك دائرة وطنه، فإذا دخل ميدان الحياة، وعرف الذين يماثلونه في ماضيه وحاضره، وما ينظر إليه من مستقبله، ووجد فيهم صورته بلسانه، ووجدانه، وأخلاقه، ونوازعه، ومنازعه شعر نحوهم من الحب بمثل ما كان يشعر به لأهل بيته في طفولته، ولما فيه -كما تقدم- من غريزة حب الذات، وطلب البقاء، وهؤلاء هم أهل وطنه الكبير، ومحبته في العرف العام هي: الوطنية»[(13)].
_________________
1/المواطن والمواطنة، د. علي الدوسري ص (16).
2/ المصدر السابق.
3/ المصدر السابق.
4/مصطلحات العلوم الاجتماعية، محمد عاطف ص (56).
5/معجم العلوم الاجتماعية، أحمد زكي بدر ص (60).
ـ6/المواطن والمواطنة، د. الدوسري ص (19).
ـ7/المصدر السابق ص (21).
ـ8/الوطن والمواطنة، للقرضاوي ص (51).
ـ9/من رسالة دعوتنا ص (19. 20) رسائل الإمام.
10/الوطن والمواطنة، للقرضاوي ص (53).
ـ11/رسالة دعوتنا ص (20. 22) من مجموع رسائل الإمام الشهيد.
12/الوطن والمواطنة، للقرضاوي ص (54).
13/آثار ابن باديس (3/366).
—–
* المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.