الرحلة في طلب العلم قديمة قبل الإسلام، فقد عرف عن كثير من العلماء في الحضارات السابقة أنهم سافروا لطلب العلم، غير أنه ما اشتهرت أمة من الأمم، ولا عرف عن حضارة من الحضارات أن علماءها رحلوا في طلب العلم وتغربوا عن الأوطان مثلما عرف عن حضارة الإسلام وأمته، بل إن المتصفح لتاريخ الإسلام قلما يجد عالما من العلماء لم يرحل من بلده إلى بلاد أخرى لطلب العلم.
فكان من عادة من يطلب العلم أن يطلبه من علماء بلده أولا، ثم لا يكتفي بذلك، بل يرحل إلى بلاد أخرى حتى يأخذ العلم على أيدي هؤلاء العلماء في تلك البلاد، لينهلوا من معين علمهم، وليطلعوا على معارف أكثر، ويقفوا على مناهج أخرى في طلب العلوم.
أول من رحل للعلم في الإسلام
كان الصحابة، رضوان الله عليهم، أول من رحل لطلب العلم، فقد كانوا يسافرون من مدنهم إلى رسول الله ” صلى الله عليه وسلم” ، فربما مكثوا معه فترة طويلة في طلب العلم، ثم يرجعون إلى أوطانهم.
وتعد أكثر الرحلات العلمية في تاريخ الإسلام ما كان في السنة التاسعة والعاشرة من الهجرة، حيث كانت الوفود تجيء إلى النبي ” صلى الله عليه وسلم” تعلن إسلامها ثم تتزود بالعلم من النبي ” صلى الله عليه وسلم” .
ومن أقدم الرحلات في طلب العلم في السنة التاسعة من الهجرة رحلة بعض الصحابة من بني لــيث بن بـــكر بن عبد مناة بن كنانة، فقد قدموا على رسول الله ” صلى الله عليه وسلم” المدينة، ومكثوا عنده عشرين يوما ثم أمرهم الرسول ” صلى الله عليه وسلم” بالرجوع إلى أهليهم ليعلموهم، ويروي أحدهم وهو مالك بن الحويرث “رضي الله عنه” فيما أخرجه البخاري ومسلم، قال: أتينا النبي ” صلى الله عليه وسلم” ، ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظن أنا اشتقنا أهلنا، وسألنا عمن تركنا في أهلنا, فأخبرناه – وكـــان رقـــيـــقا رحـــيما – فقال: «ارجعوا إلى أهليكم، فعلموهم ومروهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي, وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، ثم ليؤمكم أكبركم».
بل إن النبي ” صلى الله عليه وسلم” تنبأ بكثرة الرحلات العلمية، فوصى الصحابة بطلاب العلم الذين سيأتون إليهم من بقاع الأرض، فكانت رحلات التابعين إلى الصحابة رضوان الله عليهم، الذين حفظوا وصية رسول الله ” صلى الله عليه وسلم” بمن رحل في طلب العلم، فقد أخرج الترمذي وابن ماجه عن أبي هارون العبدي قال: كنا نأتي أبا سعيد الخدري “رضي الله عنه” فيقول: مرحبا بوصية رسول الله ” صلى الله عليه وسلم” ، إن رسول الله ” صلى الله عليه وسلم” قال: «إن الناس لكم تبع، وإن رجالا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين، فإذا أتوكم، فاستوصوا بهم خيرا».
ويتعلق بالرحلة في طلب العلم عدة أحكام، من أهمها:
المسألة الأولى: حكم السفر في طلب العلم
السفر في طلب العلم قد يكون فرض كفاية، وقد يكون مندوبا إليه.
الحالة الأولى: أن يكون السفر في طلب العلم من فروض الكفاية:
وذلك إذا كان العلم المطلوب لا يوجد في البلد الذي يسكن فيه طالب العلم، وأن المسلمين بحاجة إليه، أيا كان هذا العلم، سواء تعلق بأمور الدين أم بأمور الدنيا. قال القرطبي في تفسيره: 8/293-295: في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } (التوبة:122):
«أصل في وجوب طلب العلم، وقول مجاهد وقتادة يقتضي ندب طلب العلم والحث عليه، دون الوجوب والإلزام، وإنما لزم طلب العلم بأدلته».
والأمر كما قال الإمام الشاطبي في مقدماته في الموافقات إلى من تتوجه فرض الكفاية؟ فقال: إنه يتوجه إلى الأمة من حيث الطلب الكلي، لكنه يتوجه إلى من عنده القدرة على تحصيله، فيكون فرض عين في حقهم.
الحالة الثانية: أن يكون طلب العلم مندوبا، وذلك إذا كان في البلد من تحصل العلم، فيزيد المسافر في طلب ذلك العلم عدد المسلمين فيه، أو يكون من العلوم غير اللازمة، فيكون السفر والرحلة في طلب ذلك العلم مما هو مندوب إليه.
هذا في حق الرجل.
المسألة الثانية: سفر المرأة لطلب العلم
أما سفر المرأة لسفر العلم فله حالات، منها:
الحالة الأولى: أن تسافر مع محرمها لطلب العلم، فيكون حكمها في هذا حكم الرجل، وهو سفر مشروع.
الحالة الثانية: سفر المرأة لطلب العلم بدون محرم:
وهو مما اشتهر في أيامنا، وكثر، حتى أضحى الإنكار عليه واضحا، وكأن الأصل عند الناس جواز السفر بلا نكير من أحد.
وقد ذهب الفقهاء إلى أنه ليس للمرأة أن تسافر لغير الفرض كحج التطوع والزيارة والتجارة والسياحة وطلب العلم، ونحو هذا من الأسفار التي ليست واجبة إلا مع زوج أو محرم.
قال النووي في شرح النووي على مسلم 9 / 104: «اتفق العلماء على أنه ليس لها أن تخرج في غير الحج والعمرة إلا مع ذي محرم، إلا الهجرة من دار الحرب، فاتفقوا على أن عليها أن تهاجر منها إلى دار الإسلام وإن لم يكن معها محرم، والفرق بينهما أن إقامتها في دار الكفر حرام إذا لم تستطع إظهار الدين وتخشى على دينها ونفسها، وليس كذلك التأخر عن الحج فإنهم اختلفوا في الحج هل هو على الفور أم على التراخي».
لكن إن كان سفر المرأة في صحبة مأمونة ولم تخش على نفسها الأذى في نفسها أو عرضها، جاز لها السفر مع تحقق الأمن لها، فقد جاء في فتاوى اللجنة الدائمة (12/178): «إذا كانت إقامتها بدون محرم مع جماعة مأمونة من النساء من أجل تعلم الطب أو تعليمه، أو مباشرة علاج النساء جاز، وإن خشيت الفتنة من عدم وجود زوج أو محرم معها في غربتها لم يجز. وإن كانت تباشر علاج رجال لم يجز إلا لضرورة مع عدم الخلوة».
وهذا ربط للحكم بعلته ومراعاة لمقصده، فإن الأحكام على نوعين، أحكام مقصودة لذاتها، وأحكام مقصودة لغيرها، فأما المقصود لنفسه فلا يتغير حكمه في الغالب؛ لأنه مقصود وقوعه وإتيانه، وأما المقصود لغيره فيتغير حسب علته، فإن منع المرأة من السفر ليس منعا لذاته، وإنما هو من باب المحافظة عليها، وذلك مراعاة لضعفها، وعدم قدرتها على الدفاع عن نفسها في الغالب، فإن خشيت المرأة على نفسها الأذى في جسدها أو عرضها؛ حرم عليها السفر وحدها، لأن وجود المحرم مظنة الحفاظ عليها، فإن زالت علة المنع؛ عاد الحكم للإباحة، وهو الجواز، وعليه اعتمدت فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء.
المسألة الثالثة: نوع العلم الذي يسافر إليه
قسم الشاطبي العلم إلى ثلاثة أقسام: الأول: صلب العلم، والثاني: ملح العلم، والثالث: ما ليس صلبا ولا ملحا.
فالنوع الأول: قد يكون السفر إليه واجبا، لأنه – كما قال الشاطبي – ما كان قطعيا أو راجعا إلى القطعي، لأن تلك العلوم ترجع إلى حفظ المقاصد التي بها يكون صلاح الدارين، وهو من كان راجعا إلى الضروري أو الحاجي أو التحسيني.
النوع الثاني: وهو ملح العلم، وهو مالم يكن قطعيا أو راجعا إلى أصل قطعي، بل إلى ظني، فهذا يستحب السفر إليه.
النوع الثالث: ما ليس صلبا ولا ملحا، فهذا يحرم السفر إليه، وهو مما يعود على أصله بالبطلان، ويناهض الحق، مثل كون القرآن له ظاهر وباطن، والسفسطة وكل علم لا فائدة منه.
المسألة الرابعة: إذن الوالدين في سفر العلم
اختلفت نظرة الفقهاء في اشتراط إذن الوالدين للسفر في طلب العلم، ففرق الحنفية بين السفر الذي يخشى على نفسه الهلاك فيجب إذنهما، وما لا يخشى عليه الهلاك لا يجب استئذانهما.
أما المالكية ففرقوا بين نوع العلم الذي يسافر لأجله، والشافعية على جواز السفر لتعلم الفرض، والحنابلة مثلهم، وقد جاء بيان ذلك في الموسوعة الفقهية الكويتية (29/ 83- 84) ما نصه:
أجاز الفقهاء الخروج لطلب العلم بغير إذن الوالدين من حيث الجملة.
ولهم في ذلك تفصيلات نذكرها فيما يلي:
فرق الحنفية في الخروج لطلب العلم والتفقه بين خوف الهلاك بسبب هذا الخروج، وعدم خوف الهلاك.
فإن كان لا يخاف عليه الهلاك كان خروجه لطلب العلم بمنزلة السفر للتجارة، ويختلف حكم السفر للتجارة بين الخوف من الضيعة على الأبوين وعدمه، فإن كان يخاف الضيعة على أبويه بأن كانا معسرين، ونفقتهما عليه، وماله لا يفي بالزاد والراحلة ونفقتهما، فإنه لا يخرج بغير إذنهما، وإن كان لا يخاف الضيعة عليهما بأن كانا موسرين ولم تكن نفقتهما عليه كان له أن يخرج بغير إذنهما.
وإن كان يخاف عليه الهلاك بسبب خروجه لطلب العلم كان بمنزلة خروجه للجهاد، فلا يباح له الخروج إن كره الوالدان أو أحدهما خروجه، سواء كان يخاف عليهما الضيعة أو لا يخاف عليهما الضيعة.
ولو كان عنده أولاد فإن قدر على التعلم وحفظ العيال فالجمع بينهما أفضل.
وذهب المالكية إلى أن للأبوين منع ولدهما من الخروج لطلب العلم إن كان في سفره خطر.
قال الدسوقي: فروض الكفاية كالعلم الزائد على الحاجة، كالتجارة، فلهما منعه من السفر لتحصيله إذا كان ليس في بلدهما من يفيده حيث كان السفر في البحر أو البر خطرا وإلا فلا منع.
وصرح العدوي: بأن للولد أن يخرج بغير إذن والديه لطلب العلم الكفائي إن لم يكن في بلده من يفيده إياه بشرط أن يرجى أن يكون أهلا، فإن كان في بلده من يفيده إياه فلا يخرج إلا بإذنهما.
وأجاز الشافعية السفر لتعلم الفرض وكل واجب عيني، ولو كان وقته متسعا وإن لم يأذن الأبوان، كما أجازوا السفر لطلب الفرض الكفائي، كدرجة الفتوى، وإن لم يأذن أبواه، على أن يكون السفر آمنا أو قليل الخطر، ولم يجد ببلده من يصلح لكمال ما يريده، أو رجا بغربته زيادة فراغ، أو إرشاد أستاذ، ويشترط لخروجه لفرض الكفاية أن يكون رشيدا، ولو لزمته كفاية أصله احتاج لإذنه، إن لم ينب من يمونه من مال حاضر، ومثله الفرع لو لزمت أصله مؤنته امتنع سفر الأصل إلا بإذن فرعه إن لم ينب.
ومذهب الحنابلة في ذلك كمذهب الشافعية حيث صرحوا بأنه لا طاعة للوالدين في ترك تعلم علم واجب يقوم به دينه من طهارة وصلاة وصيام، وإن لم يحصل ما وجب عليه من العلم ببلده فله السفر لطلبه بلا إذن أبويه .
المسألة الخامسة: سفر الزوج لطلب العلم
لا خلاف بين الفقهاء في جواز سفر الرجل مع زوجته لطلب العلم، لكن إن تزوجها في بلد وأراد بها السفر إلى بلد آخر، فمحل خلاف بين الفقهاء إن كانت مسافة السفر هي مسافة القصر، أما إن كانت دون مسافة القصر، فقد ذهب الحنفية إلى أنه إن أراد بالسفر بها الإضرار بها وامتنعت، لم تكن ناشزا، أما إن كان أراد السفر لأجل مصلحة، كأن يكون يريد السفر لطلب العلم، وامتنعت المرأة؛ كانت ناشزا وسقطت نفقتها إن كان مأمونا عليها ولا تخاف على نفسها، كأن تكون مع أهلها.
والخلاصة..
أن الإنسان تعود على السفر من أجل التجارة أو الترفيه أو غيرها مما قد يكون مباحا، لكن يبقى السفر لأجل طلب العلم من المحاسن الإنسانية، والهدايات الربانية، والسنن الكونية، ومن أجل أسباب قيام الدول والحضارات، فلشرف العلم يبذل الغالي والنفيس، ويبقى العلم ويزول ما سواه.
______
* المصدر: الوعي الإسلامي.