كما تعايش غير المسلمين مع المسلمين اجتماعيًّا، فقد تعايشوا معهم في المجال الاقتصادي، وقاموا بدور أساسي في تسيير الحياة الاقتصادية.
وتعد هذه المشاركة دليلًا قاطعًا على أنهم جزء من نسيج الدولة الإسلامية، يتمتعون بكافة حقوق المواطنة، ومنها حق العمل والكسب في إطار من العدل والمساواة مع المسلمين.
لقد أتاحت الدولة الإسلامية لأهل الذمة المشاركة في الحياة الاقتصادية بما كفلته لهم من حقوق وحريات، كما ساعدت فترات الازدهار الاقتصادي التي شملت مختلف النواحي في العصر العباسي الأول، وما تلاه أيضًا في القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي على تألق الذميين في هذا المجال.
فقد قررت الحكومةُ الإسلامية مبدأ الحيازة والمِلكية للفلاحين الذين كانوا محرومين منها كافة، وقد ارتبط ذلك بفرض ضريبة الخراج التي كانت بالقياس إلى الضرائب القديمة خفيفةَ العبء، كما وضعت الضوابط التي تحافظ على أرض الذمي مثل المسلم.
فنهى الرسولُ صلى الله عليه وسلم عن الإضرار بأرض الغير، وقد قال: “ملعون من ضارَّ مسلمًا أو غيره.. ملعون”، وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة يأمره أن يمنع المسلمين من ظلم أحد من أهل الذمة، بمعنى أنه لا يحلُّ لمسلم أن يتعمَّد الإضرار بجاره لتغريق أرضه أو لتحريق زرعه في شيء يحدثه في أرضه.
كما نهى الخليفة عمر بن الخطاب عن شراء أرض أهل الذمة وعقاراتهم، وهذا الأمر مرتبط بالمحافظة على ملكياتهم بما يتفق وعهودَ الأمان التي أعطيت للذميين لحماية أراضيهم وما يملِكون، والمصادر تذكر لنا الكثير مما حازوه من أراضٍ وعقارات، مما يؤكد تمتعهم بجميع الحقوق المدنية التي ساعدتهم على الظهور في المجتمع الإسلامي [1].
وقد استعانت الدولة بخبرات أهل الذمة في بناء البحرية الإسلامية؛ فقد استعان الأمويون بأقباط مصر في إنشاء ميناء تونس ودار صناعتها، عندما أمر الخليفة عبدالملك بن مروان أخاه عبدالعزيز واليَ مصر بإرسال ألف قبطي بأهله وولده إلى أفريقية لإنشاء ميناء تونس، كما سبق أنِ استخدم معاوية المِصريين في بناء الأسطول السوري في عكا.
كما أن سياسة الرفق التي اتبعتها الدولة الإسلامية – فيما أصدرته من قرارات ضريبية رحيمة شملت مختلف أوجه النشاط الاقتصادي – قد دفعت هؤلاء الذميين إلى المشاركة الفعلية في الحياة الاقتصادية، كذلك تساوى أهلُ الذمة العاملون في استخراج المعادن مع المسلمين في الضريبة المفروضة عليهم والمقدرة بالخُمس، فضلًا عن الضريبة المخففة التي فُرضت عليهم لقاء ممارستهم للنشاط التجاري، فيؤخذ منهم نصف العشر مرة واحدة في السنة، ولا يؤخذ من أقل من مائتي درهم شيء.
وقد حرص المسلمون على ألا يتجاوز العمال الأموال المقررة في تحصيل هذه الضرائب؛ لذلك وجدنا الخليفة عمر بن الخطاب يشمل أهل الذمة بعدله، فما شكا منهم مظلومٌ واليًا – مهما كان قدره – إلا أنصَفه منه.
وفي ظل هذه الحرية الاقتصادية، وما أفرزته من مساواة وعدالة تجاه أهل الذمة، راج الاشتغال بالتجارة، كما أتيح لهم حرية الانتقال داخل أنحاء العالم الإسلامي؛ فقد اشتمل عهد أهل بعلبك: “ولتجارهم أن يسافروا إلى حيث أرادوا من البلاد التي صالحنا عليها”، وبديهي أن ينسحب هذا على جماعات المعاهدين الذين شملتهم دار الإسلام، وشجع على ذلك ما شهدته التجارة من انتعاشة؛ نتيجة ما قام به خلفاء العصر العباسي الأول من إصلاحات في الحياة الاقتصادية، وما حدث أيضًا في القرن الرابع الهجري من انتعاشة اقتصادية شملت العالم الإسلامي كله، بسبب وجود كيانات سياسية كبيرة حكمت العالم الإسلامي، وأصبحت لها السيادة على البحار، وما أدى إليه ذلك من ارتياد سفن المسلمين وقوافلهم كلَّ البحار والبلدان.
ومن الجدير بالذكر أن هذه الأوضاع أدت إلى تنوع الطوائف التي عملت بالتجارة؛ فأسهم فيها المسلمون والنصارى واليهود والمجوس والهنود الهنادكة وأتباع بوذا وغيرهم، وهم ليسوا متنوعين فحسب، بل لا ينفصلون عن بعضهم بعضاً، ويسافرون ويعملون جنبًا إلى جنب [2].
الهوامش
[1] انظر: د. نريمان عبدالكريم، معاملة غير المسلمين في الدولة الإسلامية، ص 133 – 137.
[2] المرجع السابق.
* توفي ـ يرحمه الله ـ في 9 ديسمبر 2011م
المصدر: “الألوكة”.