أتعجب من العلمانيين المصريين حين يستدعون أسماء الآباء المؤسسين لما يسمونه (تنويراً) ويتجاهلون ذكر “سلامة موسى“.
ربما لأن الرجل كان أكثر وضوحاً وصراحة في طرح مشروعه (التنويري) الذي يدندن حوله رواد (التنوير) من جيله ومن تلاهم.
فقد عبّر عن مشروعه في كتابه بين اليوم والغد: (كلما زادت معرفتي بالشرق زادت كراهيتي له وشعوري بأنه غريب عني، وكلما زادت معرفتي بأوروبا زاد حبي لها وتعلقي بها، وزاد شعوري بأنها مني وأنا منها، هذا هو مذهبي الذي أعمل له طول حياتي سراً وجهراً، فأنا كافر بالشرق مؤمن بالغرب).
وكان يرى الدين والتنوير عدوين لا يجتمعان: (.. التي أتاحت للدين أن يكون ستاراً مظلماً في بلد يقدس الدين وغالبيته تعتنق الإسلام وثقافته بعيدة عن أضواء الحضارة والديمقراطية في القرن العشرين) (نقلاً عن غالي شكري في كتابه: سلامة موسى وأزمة الضمير العربي) ص182.
ورأى التقاليد والتنوير أيضاً عدوين لا يجتمعان فعبّر عن احتقاره لتلك التقاليد في احتقاره للمرأة المصرية: (أُحِسُّ بالمرأة الإنجليزية كائناً إنسانياً يختلف كثيراً عن السِحنَّة الآدمية المصرية التي نسميها تجاوزاً بالمرأة). ( كتابه مقدمة السوبرمان).
ويسخر من الأسرة والزواج: (ويظل الزواج عقداً مصلحياً حتى يتحول في النهاية إلى دعارة أحياناً بين الزوجين..)! (نقلاً عن كتاب غالي شكري: سلامة موسى وأزمة الضمير العربي ص 203).
ويروّج للخمر في كتابه (أحاديث إلى الشباب) ص 170: (لنا الحق في أن نذكر الخمور باعتبار أنها منبهة مثل الشاي والقهوة إذا تناولناها ونحن متعبون في قِلَّة، وهذا ما يفعله جميع المتمدنين تقريباً).
ربما لأجل هذه الآراء (التنويرية) واضحة السطوع يتحاشى بعض العلمانيين وضعه ضمن أسماء دعاة التنوير الأقل وضوحاً وصراحة منه.
ولكن للحق والإنصاف فقد تميّز “سلامة موسى” من بين أقرانه بوضوح مشروعه، وثبات خطه الفكري في منحنى تصاعدي، وهو ما يلمحه أي مطلع على إنتاجه الفكري المنشور في حوالي أربعين كتاباً، وقد أشار إلى ذلك أحد تلاميذه “محمد مندور” في مقدمته لكتاب (انتصار الإنسان) وهو مجموعة من مقالات سلامة موسى رتبها “مندور” ترتيباً تاريخياً معللاً ذلك بقوله: (لكي يتضح مدى ثباته على الآراء التي آمن بها طول حياته عن وعي وإيمان).
وتميّز من بين أقرانه بأنه لم يكن مجرد مترجم أو ناقل عن مفكري الغرب، بل كان كما وصفه الأستاذ فتحي رضوان: (أما سلامة موسى فقد تميّز عن غيره لأنه لم يكتب إلا عن مفكرين آمن بما يدعون له من فكر ومن رأي، وظل متمسكاً بالدعوة لهم، الأمر الذي يضعه في مصاف الدعاة لا الكتاب).
وكان هو يرى في نفسه صورة المثقف الرسالي من بين أقرانه (التنويريين)، وكان يري نفسه مناوئاً للاستبداد والاحتلال في حين يرى أقرانه (التنويريين) مهادنين للاحتلال ومناصرين للاستبداد، ويواجههم باتهامهم ببعدهم عن دور المثقف الرسالي (التنويري) في كتابه (الأدب للشعب) ص 13 ويوجّه أسئلة استنكارية لمعاصريه، فيسأل “توفيق الحكيم”: ما هي رسالتك الأدبية في مصر، ويسأل “العقاد” ومن بعده “طه حسين”: لقد ألفت نحو خمسين أو ستين كتاباً فما هي رسالتك الإنسانية فيها؟ وأحب أن أسأل طه حسين السؤال نفسه.
ثم يعقب بقوله: (إني أستطيع أن أؤلف كتاباً عن رسالتي التي تنتظمها مؤلفاتي وأن أوضح أنها رسالة الإنسانية والحرية والمساواة والحضارة والعلم. فهل هذا في مستطاع كُتَّابنا الذين ذكرتهم؟).
ولم يكن وحده يرى نفسه المثقف الرسالي التنويري الوحيد من بين أقرانه، بل كذلك وصفه تلاميذه، ففي كتابه (سلامة موسى وأزمة الضمير العربي) يصفه مؤلف الكتاب “غالي شكري” بقوله: (كان المفكر المصري الوحيد الذي يمكن أن ندعوه بمفكر العصر) ص 19.
ويصف “غالي” في كتابه هذا “سلامة” بأنه كان الأكثر تأثيراً في جيل الشباب، وكان من أكبر من تأثر به “نجيب محفوظ” الذي كان وفياً لأستاذه حين صوّر في روايته (السُكَّرِية) نقطة التحول التاريخية التي أحدثها سلامة موسى في جيل بأكمله متمثلة في شخصية عدلي كريم في الرواية.
ومن أراد أن يستزيد من موقفه من زملائه أعلام (التنوير) الذين استأثروا دونه بألقاب (أستاذ الجيل) و(عملاق الفكر) و(عميد الأدب العربي)، واتهامه لهم بفقدانهم لدورهم الرسالي وتزلفهم للاحتلال ولأصحاب السلطة فليعد إلى كتابيه (الأدب للشعب) و(تاريخ الثورات).
ونفس الرأي الذي ذكره “سلامة” في أبناء جيله من الآباء المؤسسين (للتنوير)، ذهب إليه بجرأة نادرة علي المراجعة والاعتراف “توفيق الحكيم” في كتابه (عودة الوعي).