كتب د. يوسف القرضاوي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلين، مقالاً، نشر على الموقع الشخصي للدكتور القرضاوي وعلى موقع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، نعى فيه الأستاذ الدكتور محمد مصطفى الأعظمي الذي وافته المنية في العشرين من ديسمبر الماضي، قال فيه:
أخي الحبيب، وصديقي الأديب، علّامة الحديث المحقِّق، وفهَّامة الثقافة الإسلاميَّة المدقِّق، خِرِّيج مدارس الهند الإسلاميَّة وجامعاتها، وتلميذ مشايخ الهند الكبار وساداتها، أبا عقيل، الأستاذ الدكتور محمد مصطفى الأعظمي، الذي عرفته أول ما عرفته حينما وصل من الهند ليطلب العِلْم – كما قال علماؤنا – ولو بالصين، فطلبه في مصر بلد الأزهر، ليدرس الدراسات العُلْيا، كما قال الله تعالى لرسوله الكريم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114].
و«الأعظمي» نسبة معروفة في الهند، و«أعظم كَرَه» هذه هي التي يُنسب إليها كثير من علماء الهند ، وهذه غير أعظمية بغداد، التي ينسب لها بعض من نعرفهم من العلماء والأدباء في العراق، فأعظمية بغداد نسبة إلى حي «الأعظمية» التي فيها مسجد وقبر الإمام الأعظم أبي حنيفة، وهي منطقة سنية. فيها المسجد الجامع للإمام أبي حنيفة الذي سمَّاه تلاميذه وإخوانه – وكلهم أئمَّة- الإمام الأعظم، وسُمِّيت المنطقة التي يقع فيها الجامع «الأعظم» نسبة للإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، وإليها ينتسب صديقنا الشاعر الفحل وليد الأعظمي، وفي مقابلها «الكاظمية» وفيها قبر الإمام موسى الكاظم، وهي منطقة شيعية.
وأخونا الدكتور محمد مصطفى الأعظمي من علماء الهند، كان يدرس في الأزهر العالمية مع إجازة التدريس، عرفته في الأزهر قبل أن يدخل السجن بفترة بسيطة، ثم فوجئنا بأنهم جرّوه إلى السجن، لأنه كان يختلط بطُلَّاب الإخوان في الأزهر كالعسّال والصفطاوي وغيرهما، وسرعان ما اختطفتْه كلاب الصَّيد، وزجَّت به في السجن الحربي، وكان يلبس زي إخواننا الهنود من البالطو الأسود، والقلنسوة السوداء، واللحية السوداء، فقد كنَّا في أوائل الشِّتاء، فحينما رأوه حسبوه قسيسًا! فلمَّا رآه العساكر من المصريِّيْن الأمِّيِّين، ورأَوْه بهذه الثِّياب السُّود، فظنُّوه من قساوسة المسيحيِّين، فقالوا للإخوان: يا أولاد الـ…. (يشتمونهم)، لم يَكْفِكُم المسلمون، فذهبتم إلى المسيحيِّين، ليدخلوا معكم الإخوان!
وكان له مواقف معهم، ولا أدري كم بقي، ومتى خرج. ولكنه على كلِّ حال، خرج قبلنا بوساطة بلده الهند، وسفارتها في مصر. ثم شاء الله أن يجمعنا بعد ذلك بعدة سنوات في بلد واحد من بُلْدان الخليج العربيِّ هو قطر، فقد وجدتُه عُيِّن أمينًا عامًّا لمكتبات حاكم قطر الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني، ثم بُنِيَت دار الكتب في قطر، وجُمعت فيها كل هذه المكتبات، فأصبح هو الأمين العام، والأستاذ عبد البديع صقر المدير العام لها.
وقد كان الشيخ محمد مصطفى الأعظمي في استقبالنا عند مجيئنا إلى الدوحة أول مرة، وكان لنا في قطر لقاءات خاصة، شبه منتظمة، ونحن مجموعة تضم: عبد الحليم أبو شقة، وأحمد العسال، وحسن المعايرجي، وأنا، وكلنا مصريون، وتضم معنا الأخ العالِم البحاثة محمد مصطفى الأعظمي، وهو هندي، ولكنْ مصَّره التعليم في مصر، ودخول السجن الحربي مع الإخوان. وقد كان بيننا وبين الدكتور الأعظمي زيارات أسرية، وكنا ندعوه وأولاده في بيتنا، فيقول: أكلكم لذيذ ولكنه ميِّت لا روح فيه. قلنا له؟ وما الذي يحييه؟ قال: هو شيء واحد لا معنى للأكل بدونه، إنه الشطة والفلفل الحار.
قلنا له: علينا أن نصنع الطبخ، وعليك أنت أن تحضر الشطة، وأن تكون في كيسك!
وضحكنا، وكانت هذه هي الطريقة المتَّبَعة دائمًا، ندعوه نحن، وعليه هو الشَّطَّة.
والإخوة في شبه القارة الهندية يضعون الشطة على جميع أصناف الطعام، حتى الحلويات!
وكنا نلتقي في بيت واحد منا لنتشاور ونتدارس ونتناقش، ونستعيد الذكريات، وخصوصًا في بيت الأستاذ عبد الحليم أبو شقة، مديرِ المدرسة الثانويَّة الوحيدة في قطر، والدكتور عز الدين إبراهيم الذي كان قد عاد قريبًا من لندن بعد أن حصل على الدكتوراه في الأدب العربي، وكان يعمل مساعد مدير المعارف، والأستاذ كمال ناجي، والفقير إليه تعالى، وأخي الشيخ أحمد العسَّال، وينضمُّ إلينا الأستاذ حسن المعايرجي الذي كان يعمل في تدريس أولاد الشيخ أحمد حاكم قطر، وكان يزيد هذه المجموعة المصريَّة أخونا الهندي المسلم، الذي أصبح واحدًا منَّا.
كان الدكتور عز الدين يُسمِّي هذه الجلسات: جلسات «التسليك»، على طريقة ما يسمِّيه بعض الإخوة الصوفيين، حينما يجلس كبارهم أو مشايخهم مع الناشئين منهم لكي (يسلكوهم) أي: يعطوهم سنة أولى في التسليك، فإذا نجحوا وصلوا إلى سنة ثانية، وما بعدها. حتى ينتهوا إلى الرتبة الأخيرة وهي العليا. وشاء الله بعد فترة أن تنتهي هذه الجلسات، بقرار من الأخ عبد الحليم، الذي قرَّر أن يتفرَّغ للعلم والتأليف، وأن يكتفي بالمبلغ الذي جمعه طيلة السنين الماضية، لينشئ به دار نشر، ينفق من إيرادها، وذهاب أخينا الأعظمي إلى السعودية ليُدَرِّس في جامعاتها، وقد حصل على الدكتوراه، وهناك حصل على الجنسية السعودية، بعد أن حصل على جائزة الملك فيصل في السُّنة النبوية.
ولما أقمنا مركز بحوث السنة والسِّيرة، وكُلِّفْتُ من أمير البلاد ومن مدير الجامعة بإدارته، استشرت د. الأعظمي في كثير من الأمور، فأشار عليّ يما يراه، وطلبت منه أن يمد المركز بعدد من المصورات التي تمتلكها دار الكتب، فقبل، فصورناها ونقلناها إلى المركز. وكان دائمًا حتى بعد انتقاله إلى السعودية في خدمة ما نطلبه منه. كما كنت ألتقي الدكتور الأعظمي في مناسبات عدة، منها مشاركتي في «مهرجان ندوة العلماء» بلكهنو بالهند، في أواخر شهر أكتوبر سنة 1975 م. الذي دعا إليه الداعية الإسلامي الكبير حبيبنا العلّامة الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي، رئيس ندوة العلماء، وذلك بمناسبة مرور خمسة وثمانين عامًا على تأسيس ندوة العلماء.
وعندما كتب أخي الدكتور عبد العظيم الديب بحثا عنوانه: الكمبيوتر حافظ عصرنا، فإذا كان طلبة العلم يجلسون بين يدي شيوخهم، ويلقبونهم بلقب (الحافظ) كالحافظ ابن حجر، والحافظ السيوطي، فقد صار حافظ عصرنا هو الكمبيوتر، فينبغي أن نهتم بحافظ العصر هذا، لا يمكن أن نستغني عنه، وحين بدأت شركات ومؤسسات تضع كتب الحديث والفقه وغيرها على الكمبيوتر ، كان أخونا د. محمد مصطفى الأعظمي، رائدا في هذا المجال، فقد كان يعمل فيه منذ نحو ثلاثين سنة، وعندما أقمنا مؤتمرا في قطر، بعنوان: نحو موسوعة شاملة للحديث النبوي، قال: إنه جمع سبعة عشر كتابا في السنة، في نحو ثلث قرص كمبيوتر، وفيه أكثر من ثلاثمائة ألف حديث، وأنه ما زال يعمل.
كانت كل بحوث الأعظمي ودراساته حول السُّنَّة، وإن لم يخلُ عمله من دراسات حول القرآن الكريم، تميز بكتابتها دفاعا عن القرآن. واشتغل بجهاز الكمبيوتر وأتقنه ووضعه في بيته، ودرَّب عليه أولاده، ووصل فيه إلى تخزين عدد من كتب الحديث الأصلية ومصادره، وانتهى إلى مفردات لم ينته إليها غيره آنذاك. وكتب بعض البحوث القيمة باللغة الإنجليزية التي ينبغ في الكتابة بها، ورحَّب الإخوة العارفون بهذه اللغة بما كتبه العلّامة الأعظميّ. واستمر على هذا النهج في خدمة الإسلام وعلومِه وتراثِه، وإن كان بعضهم قد أخذ عليه انكبابه وحده على عمله؛ فإن كان لا بد له من مساعد، فليكن أولاده.
وقد جرَّبت البحث معه عن بعض الأحاديث، فكانت النتيجة ممتازة، تحدثت معه عن حديث رواه الإمام أحمد في «مُسْنَده الكبير»، ولكنَّه ليس في المطبوع، ذكره الحافظ المنذري في أحاديث الترغيب والترهيب ونسبه إلى «المسند» وكلام الأئمة عليه، وكشف لي عن الحديث، فإذا هو في «المسند» الذي جمعه. وجرَّبنا أكثر من مرة على «المسند»، فكان كذلك. خرّج الأعظمي أحاديث سنن ابن ماجه على الكومبيوتر، وصحَّح أخطاء فيها، وقوَّم وعدَّل، وخرَج بنتائج أعلنها على العلماء والباحثين. وأخرج سنن ابن ماجة في أربعة أجزاء؛ مبينا ما تميزت به نسخته وما تميز بها من تحقيق. وقد استمر في عمله في خدمة السنة، وإن لم يُتح لي أن أطلع على كل ما أنجز فيها. وأعتقد أن عمله من الأعمال التي تدخل في مرتبة الإتقان، كما في الحديث: “إن الله يحب إذا عمل عبده عملا أن يتقنه”.
وقد اكتشف هو ما عُدَّ مفقودًا عند العلماء من قرون، وهو صحيح ابن خزيمة، وهو أحد الصِّحاح المعروفة والمهمَّة، وهو أصحّ سندًا ومَنْهَجًا من صحيح ابن حِبّان باعتراف الأئمّة المتمكِّنين. وقد اكتشفه العلَّامة الأعظميّ، وإن لم يكن كاملًا، ولعل الله يهيئ بعض الباحثين لاكتشاف بقيّة هذا الكتاب، ويُنشر بحذافيره مكتملًا، وما ذلك على الله بعزيز.
في السنوات الأخيرة زارنا في قطر، وأحيا الصداقات القديمة، وجدَّد العلاقات، ورحَّب به أهل البلاد، ورحبت به الطوائف الثقافية، وخصوصًا الشرعية منها، وأقاموا له الندوات في أكثر من مكان. ثم عاد إلى الرياض معقله ومأواه الأخير، وقلّ نشاطه، وقلَّت حركته، وقلَّ استقباله للناس كما علمت. وقلّ نشاطي وذهابي إلى الرياض، فلم نجتمع عدة سنوات، ولم يدر بيننا حديث، ولم يجر بيننا كلام، لا في العلم، ولا في الدين، ولا في الدنيا حتى سمعت بوفاته، وطلبت من الإخوة في المكتب أن نصلي عليه صلاة الغائب، داعين الله تعالى أن يغفر له ذنبه، ويكفِّر عنه سيِّئاته، ويعظم له أجره، وأن يجزيه بالحسنات إحسانًا، وبالسَّيِّئات عفوًا وغفرانًا، وأن يتقبَّل منه عمله الصالح، وخصوصًا ما كان من علم نافع، نرجو الله تعالى أن يسدِّد به الخُطى، ويهدي به السبيل، ويخرج الأمّة من الظلمات إلى النور، ويهديها إلى الصراط المستقيم.
وإنا لنرجو من ابننا الدكتور عقيل محمد الأعظمي أن يولي كل العناية بتراث أبيه، وأن ينشر منه الأجزاء النافعة، حتى ينتفع الناس بها، ويستفيد من كل من يفيد في ذلك في أيّ بلد مسلم، ونحن على استعداد أن يكون لنا سهم في هذا المغنم، فمن أعظم ما يورث من الإنسان بعد موته: علم نافع.
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10].
{رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8].