لقد كان من آثار انتقال الفكر اللغوي الغربي، من الاتجاه التاريخي في دراسة اللغات إلى الاتجاه الوصفي، أن أعطى الغربيون للهجات المعاصرة “عناية لم يعطوها اللغات الرسمية، وبخاصة إذا كانت هذه اللغات تقتصر على الكتابة دون الحديث كاللاتينية واليونانية القديمة مثلاً”، [1] ولم تقتصر مظاهر هذه العناية على انتقال دفة الدراسة إلى تلك اللهجات على حساب اللغات القديمة فحسب، وإنما أصبح – في وقت لاحق – اعتبار “كل ما يقوله أغلبية الناس ويقبلون به كلامًا سليمًا بغض النظر عن اللغة المكتوبة التي تستعمل في الأدب وخلافه. فلم يعد هناك معيار للصواب والخطأ مفروض على أفراد المجتمع، بل أصبح كل ما يقوله مجتمع معين يعتبر لغةً سليمةً لا غبار عليها، وتستحق التسجيل في كتب القواعد، ولم يستبعدوا من ذلك إلا كلام السوقة، وأولئك الذين يتكلمون لهجاتٍ محليةً خاصةً بأفراد جماعةٍ معينةٍ، أو حي معين أو مهنةٍ معينةٍ، وحتى هذه – إن وجدت – فلها الدراسات الخاصة بها”. [2]
وتأثرًا بهذا الاتجاه الغربي وانسحابه على الدراسات الاستشراقية، فقد ” أصبح الاستشراق الحديث ينظر إلى العربية الفصحى المعاصرة على أنها تمثل مرحلة جديدة من عمر اللغة ” [3] ومن ثم توالت الدعوات إلى دراسة اللهجات العربية الحديثة والاهتمام بها وإعطائها حقها من الدراسة والتحليل، بل وإحلالها محل الفصحى التي لم تعد إلا مجالا للكتابة الأدبية، والتي هي منبتة الصلة عن الاستعمال اللغوي المعاصر.
ولم يقف الأمر عند الدعوات إلى ذلك فقط، بل انتقل إلى الجانب التطبيقي في اتجاه موازٍ للدراسات الغربية، فقد ” ظهر مع الاهتمام باللهجات ما عُرف باسم (الجغرافيا اللغوية، أو اللغويات الجغرافية) فقد نُشر أول أطلس لغوي ألفه جليرون وأدموند اسمه (الأطلس اللغوي لفرنسا) عام 1902- 1920م، وقد جاءت الدراسة الجغرافية للهجات في بلاد الشام مزامنة لذلك الأطلس الفرنسي، فقد نشر المستشرق الألماني برجشتراسر بحثه (الأطلس اللغوي لسوريا وفلسطين) سنة 1915م بعنوان: (Sprachatlas von syrien und palastina ZDPV 38 – (1915) 169-222) وثمة أطالس جغرافية لدراسة اللهجات العربية في مصر والشام والمغرب، وهي من أعمال المستشرقين. وفي هذا ما يدل على الاتصال والتزامن الوثيقين بين ما يطبق على اللغات الأوروبيَّة والشرقيَّة، وقد انعكس الاتجاه العام للبحث في اللهجات الأوروبية على دراسات المستشرقين، فقد أخذوا يولون اللهجات العربية الحديثة عناية خاصة… وقد بلغ من شدة اهتمام المستشرقين باللهجات الدارجة أن عدوها اللغات الجديرة بالدراسة دون الفصحى، فقد ذهب بعضهم إلى إنكار أن تكون الفصحى لغة حيَّة، قياسًا على واقع اللغتين اليونانيَّة واللاتينيَّة” [4]
ولا يخفى ما ينضوي عليه هذا التأثر بالفكر اللغوي الغربي، واهتمامه بالعامية على حساب الفصحى من مخاطر وخيمة، ومضار عظيمة، إضافة إلى أنه خطأ علمي يتمثل في فرض واقع لغوي على واقع لغوي مغاير، فالعامية ليست امتدادًا طبيعيًّا للغة الفصحى – كما هو واقع اللغات الأوروبية – وإنما هي نوع من التحولات والتحورات التي أصابت اللغة فأبعدتها – في الأعم الأغلب – عن صورتها الصحيحة، ولقد كان علماؤنا القدامى أكثر حصافة، وأسبق تنبُّها إلى فكرة إيجاد معايير ثابتة تدور في فلكها الأجيال التالية خطأ وصوابا، ومن هنا نشأت فكرة عصور الاحتجاج ببعديها الزماني والمكاني، والتوافر على تسجيل ودراسة وتقعيد ما وصل إلينا من عربية صافية في هذه العصور. ” أما العصور التالية لعصر الاحتجاج فلم تحظ بدراسات تفصيلية مهمة.. أما أن توصف قواعد اللغة المتطورة في العصور اللاحقة بقصد المسير عليها فهذا مسعىً لا يقره القدماء؛ لأنه في أيسر ما يقال عنه: إنه خارج عن المعيار المنشود الذي تقره قواعد عصر الاحتجاج. ولذا كان في وسع المرء أن يَسِمَ منهج القدماء بصفة عامة جامعة، وهي المعيارية، وأن يسمي منهجهم بـ (المنهج المعياري).. وأصحاب المنهج المعياري يهتمون بالمحافظة على صفة (الثبوت) والاطراد اللذين يُلزمان الناس عبر العصور بهذه المعايير. ومما يسوغ اقتصار علمائنا القدماء على دراسة اللغة إلى عصر الاحتجاج، رغبتهم في الحفاظ على اللغة في صورتها التي ترتبط بالقرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وسيرة السلف الصالح من المسلمين الأُوَل، ولذا فإنهم لم يكترثوا بالعصور اللاحقة، إلا في الحدود التي تَشُدّ الناس إلى لغة المعيار الثابت، لغة عصر الاحتجاج” [5]
ولقد عانى الغربيون أنفسهم من عدم ثبات لغتهم وتطورها تطورًا سريعًا، فمن يدرس اللغة الإنجليزية في مراحلها التاريخية يجد أن كثيرًا ” من تلك الألفاظ التي أَلِفها الناس في زمن تشوسر – أبو الشعر الإنجليزي كما يسمونه – قد أصبحت تحتاج في عهد شكسبير إلى مترجم أو مفسر لدلالتها، رغم أن ما مر بينهما من الزمن يعد قصيرًا في تاريخ الأمم، ذلك لأن اللغة الإنجليزية في تلك الفترة قد تُركت نهبًا للتطور والتغير، ولم تقيد بقيود تحول بينها وبين ذلك التطور السريع، بل تركت وشأنها حرةً طليقةً تصيب حظها الأوفر من الحياة والنمو. وقد كان من الممكن أن يتم لألفاظ هذه اللغة بعد عهد شكسبير من التطور في دلالتها مثل الذي حدث بعد تشوسر لو لم يستقر الأدب الانجليزي بعض الاستقرار خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر.. ومع هذا أو رغم هذا تطورت دلالات كثير من الألفاظ، وأصبح الناس لا يكادون يفهمون ما في أدب شكسبير من دلالات بعض الألفاظ، ويحتاجون إلى معاجم تاريخية للكشف عنها” [6]
وهنا نقطة أخرى في مسألة التأثر لها صلة وثيقة بالكلام السابق، وهي المتعلقة بنظرة المستشرقين للتطورات الحادثة في اللغة. فلقد عاب بعض المحدثين من الأوروبيين على قدمائهم نظرتَهم لمرحلة لغوية تاريخية على أنها المثل الأعلى الذي لابد أن يحتذى، وأنه إن كان من المقبول ذلك في الجانب التعليمي فإن لا ينبغي أن يطبق في دراسة اللغة، ثم يتحدث عن فكرة التطور عند القدماء مستهجنًا إياها بقوله: “ويزعمون أنه كانت توجد في العصر البدائي لغةٌ كاملةٌ ذات اطراد مطلق. وأنه لما كان التغير من قوانين اللغة، كان من المحتوم أن يسير تطور اللغة بها إلى الابتعاد عن مثلها الأعلى البدائي. لذلك يتكلمون عن التطور اللغوي في عبارات غريبة، فهو عندهم تشويه أو تحريف أو فساد!.. من العبث أن نؤكد أن الفرض القائل بأن هناك لغةً كاملةً قدّت في عهد سحيق مما قبل التاريخ فرض خيالي محض.” [7] هذه هي نظرة الوصفيين للخروج عن القواعد المعيارية أنها عبارة عن تطور لغوي أو هو ” تغيير في طرائق الاستعمال اللغوي” [8]
وهذه النظرة الغربية انسحبت – أيضًا – في محاولة دراسة واقع اللغة العربية، حيث ” تبدو آثار الدهشة واضحة على النظرة العربية المعيارية التي اعتادت أن تنظر إلى انحرافات الكتاب صرفيًّا أو نحويًّا أو دلاليًّا على أنها أخطاء يَهُبّ من أجل إصلاحها نفر من الباحثين في مقالات أو كتيبات، أو حتى معاجم تؤلف لرصد الأخطاء الشائعة، في الوقت الذي نجد فيه محاولات أخرى لأصحاب المنهج الوصفي – المستشرقين والعرب – ينظر إليها من خلال هذه الأخطاء على أنها محاولات من اللغة للدخول في مرحلة جديدة، وعلى هذا فإن هذه الأخطاء – في نظرهم – ليست سوى ملامح جديدة أو مميزات لمرحلة جديدة وفي هذا المعنى يقول ستتكيفتش ” إن العربية الحديثة تظهر إلى الوجود بقدر ما يحدث فيها من تغيير يجعلها مختلفة عن العربية القديمة أو الفصحى” [9]
إن هذا التأثر الواضح بالفكر اللغوي الغربي ليتجاهل تمامًا الواقع اللغوي العربي القائم على ” أنَّ للعربية وضعًا خاصًّا يميزها في تطورها عن اللغات الأخرى بحكم ارتباطها بالقرآن الكريم، وعلى هذا فإن معاني العربية في مفرداتها وتراكيبها قد تتغير أو تتسع أو تضيق.. أما التَّراكيب الصَّرفيَّة والنحويَّة فتبقى على نمطها القديم. ولا يتجاوز ما يعتريها من تطور أن يكون وجوهًا من الجواز اللغوي القديم. فإن تجاوز ذلك فإن التجاوز في قواعد النحو والصرف عند العربي نوع من اللحن والخروج عن الصواب” [10]
وهذا كله يثبت أن وجود لغة تعتبر هي المثال الكامل والذي ينبغي أن يحتذى ليس ضربًا من الخيال، بل هو واقعٌ ملموسٌ، يجسده الهروع إلى لغةِ القرآن الكريم الأعلى فصاحةً وبلاغةً ولغةِ الشعر والنَّثر العربيين القديمين، وهو ما لا تعرفه اللغات الأوروبيَّة نظرًا لاختلاف طبيعتها عن العربية في هذا الشَّأن، وليس هذا قدحًا فيها أو حطًّا من قدرها، بقدر ما هو تفهُّم لاختلاف خصائص اللغات.
——————————————————————————–
[1] المستشرقون والمناهج اللغوية (109).
[2] أضواء على الدراسات اللغوية المعاصرة (89) بتصرف يسير.
[3] بحوث في الاستشراق (328).
[4] المستشرقون والمناهج اللغوية (110، 111).
[5] المستشرقون والمناهج اللغوية (24).
[6] دلالة الألفاظ (122، 123).
[7] المستشرقون والمناهج اللغوية (109).
[8] المراحل الزمنية للغة العربية الفصحى، ضمن كتاب بحوث في الاستشراق واللغة (432).
[9] المستشرقون والمناهج اللغوية (89)، والعربية الفصحى الحديثة (279).
[10] بحوث في الاستشراق (328، 329).
———
* المصدر: الألوكة.