في ذكرى تحويل القبلة تأتي الآية الأبرز ضمن سياق آيات التحويل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
والأمة الوسط الشاهدة على الناس، لا يكتمل لها هذا الوصف حتى تتمكن الأمم الأخرى من الحياة إلى جوارها دون خوف أو قلق، فتتمكن من ممارسة شعائرها ومعتقداتها حتى لو كانت تلك المعتقداتُ، معتقداتٍ فاسدة وضالة في نظر الأمة الوسط.
مدى وسطية الأيدولوجيات والأديان الأخرى
وهذه الوسطية التي يتحلى بها الإسلام، لا توجد في دين أو أيدولوجية أخرى مهما تظاهرت بالتسامح، والقدرة على التعايش مع الآخرين؛ فالعبرة ليست بالادعاءات ولكن بالواقع.
وهذه بعض المقارنات:
أكل الخنزير أو الجوع للطلاب المسلمين
كانت مدارس مدينة بوكير، جنوبي فرنسا، تتيح وجبة بديلة للأطفال الذين يمتنعون عن أكل الخنزير. ثم سرعان ما تبخر هذا التسامح؛ فقد أصدر عمدة مدينة فرنسية جوليان سانشيز ، قرارا يقضي بجعل لحم الخنزير وجبة وحيدة، خلال أحد أيام الأسبوع، داخل المطاعم التابعة للمدارس.
وقال سانشيز: إن الوجبات البديلة المتاحة سابقا أحدثت نوعا من التمييز بين التلاميذ، فكان من لا يأكلون الخنزير “ينزوون في جانب بمفردهم”، وهو أمر “غير إيجابي” في رأيه.
وفي المقابل، جاء في كتاب الإنصاف:
تُمنع الزوجة الذمية من شربها مسكرا إلى أن تسكر، وليس له منعها من شربها منه ما لم يسكرها . على الصحيح من المذهب ، ومثله أكل لحم خنزير .
و [ لا ] تمنع من دخول بيعة وكنيسة . ولا تكره على الوطء في صومها نص عليه . ولا إفساد صلاتها وسنتها .
بل أكثر من ذلك، فإن الاستحمام إذا أخذ بعدا دينيا، فلا يجوز للزوج أن يأمر به زوجته إذا لم تكن تدين بهذا الدين؛ فقد جاء في كتاب المغني من كتب الحنابلة، أن زوج الزوجة الذمية، يجوز له أن يجبرها أن تغتسل من الحيض والنفاس؛ لأن امتناعها من هذا الغسل يفوت عليه حقه في جماعها، لكنه لا يجوز له أن يجبرها أن تغتسل من الجنابة ؛ لأن امتناعها من غسل الجنابة لا يفوت عليه حقه في الجماع، وإن فوت عليه كمال المتعة ! فحقها مقدم على حقه هنا، وإلى ذلك مالك والثوري ، وللشافعي قولان كما قال ابن قدامة في المغني.
حظر ارتداء الحجاب في أوروبا
مؤخرا، قضت محكمة العدل الأوروبية، بحظر ارتداء الحجاب والرموز الدينية كافة فى أماكن العمل، وذلك بعد دعويين مختلفتين أحالتهما دوائر قضائية فى فرنسا وبلجيكا إلى المحكمة تتعلقان بارتداء الحجاب وقانونية حظره فى الشركات والمؤسسات المختلفة.
وقالت المحكمة الأوروبية ومقرها لوكسمبورج فى حيثيات حكمها : إن جميع المؤسسات الأوروبية يحق لها أن تحظر ضمن قوانينها الداخليةـ أى إبراز أو ارتداء لرموز سياسية أو فلسفية أو دينية للحفاظ على حياديتها وفق شروط، وذلك بعد نظر قضيتين من بلجيكا، وفرنسا، تتعلقان بمسلمتين اعتبرتا أنهما تعرضتا للتمييز فى العمل بسبب ارتداء الحجاب.
وقالت مستشارة لمحكمة العدل الأوروبية قبل النطق بالحكم إنه ينبغى السماح للشركات بحظر ارتداء الحجاب، إذا كان هذا فى إطار حظر عام للرموز الدينية والسياسية.
وفي بلجيكا أقرت عام 2011 قانونا يحظر النقاب، وأى نوع من الملابس يمكن أن تخفى وجوه الناس فى الأماكن العامة، ويمكن أن تتعرض المرأة المخالفة لسجن لمدة 7 أيام، أو دفع غرامة تقدر بـ1378 يورو.
وفي المقابل، لا تتدخل الشريعة الإسلامية في ملابس غير المسلمين، بل تدعهم وشأنهم فيما هو أكبر من ذلك، وهذه الدرجة العالية من التسامح كانت محل إشكال عند عمر بن عبد العزيز، خامس الخلفاء الراشدين، فسأل الحسنَ البصري قائلا :
“ما بال الخلفاء الراشدين تركوا أهل الذمة وما هم عليه من نكاح المحارم ، واقتناء الخمور والخنازير ؟ ” فجابه الشيخ الفقيه رحمه الله قائلا :” إنما بذلوا الجزية ليتركوا وما يعتقدون ، إنما أنت متبع لا مبتدع، والسلام” . [حقوق المواطن غير المسلم في الدولة الإسلامية : مثنى أمين نادر ، ص ١٢٥ ]
الطعام الحلال
من هذا التسامح الإسلامي العظيم، الذي يترك غير المسلمين يأكلون ما يشاءون، ويتزوجون حسب اعتقاداتهم، إلى أوروبا، التي حرَمت معظم بلدانها المسلمين من تناول الطعام الحلال!
فمؤخرا صوت برلمان منطقة والونيا شرقي بلجيكا على حظر ذبح الحيوانات وفق الشريعتين الإسلامية واليهودية، في ثاني قرار من نوعه يصدر بمناطق داخل هذه الدولة الأوروبية.
وصوتت لجنة البيئة في برلمان المنطقة بالإجماع على بدء الحظر، الذي سيدخل حيز التنفيذ في سبتمبر 2019م.
وأكد القرار على وجوب الصعق الكهربائي قبل الذبح، الأمر الذي يؤدي إلى موت الحيوان إثر الصدمة الكهربائية!
وكان برلمان المنطقة الفلمنكية شمالي البلاد قد اتخذ قرارا مماثلا في وقت سابق، على أن يدخل حيز التنفيذ في يناير 2019.
ولا يقف الأمر عند بلجيكا، فقد سبقتها إلى ذلك الدنمارك وسويسرا ونيوزيلندا وبولندا، حيث فرضت قيودا مماثلة على ذبح الحيوانات على الطريقتين الإسلامية واليهودية.
حمامات السباحة المشتركة
وفي ألمانيا، صدر حكم يقضي بمنح الإدارات المدرسية الحق في إجبار الفتيات المسلمات بالمشاركة في حصص السباحة المختلطة بين الجنسين.
فقد رفعت ( عائشة ) فتاة مسلمة فرنسية من أصول مغربية قضية تطالب بإعفائها من حضور حصص السباحة المختلطة بالمدرسة.
وسبق للمدرسة أن رفضت طلباً لوالدي عائشة بهذا المعنى قبل عامين. وسبق أن صدر حكم بالقضية من جانب المحكمة الإدارية في كاسيل بولاية هيسن يؤكد رفض المدرسة إعفاء عائشة من حصص السباحة المختلطة مع البنين وحقها في إلزامها بذلك.
كما رفضت المحكمة الإدارية في لايبزيغ تلك الحجج التي تحدثت عن ضرورة عدم تعرض الفتاة للطلبة البنين، وهم بزي السباحة خلال حصة الجمنازيوم لأسباب دينية.
وأشار القضاة في نفس الوقت إلى أنه لا توجد خيارات أمام عائشة سوى أن تتواجد مع الصبية في الأماكن المخصصة لتعليم السباحة. وكل ما يحق لعائشة هو الحضور بلباس ( البوركيني) لكن لا بد من حضور الحصص المختلطة !
ملاحقة الشرطة للبوركيني في فرنسا
ومهما نسي الإنسان من صور عنصرية؛ فإنه لن ينسى صورة شرطيين، وهما يجبران مسلمة بشواطئ فرنسا على نزع لباس (البوركيني)!.
ففي البلاد التي تتشدق بالحرية، وتزعم أن (العلمانية) خير أيدلوجيا، يمكن للمختلفين دينيا أن يمارسوا خلالها شعائرهم ومعتقداتهم دون تفرقة أو عنصرية، في هذه البلاد، لا يتمكن المسلم من تناول اللحم (المذبوح حسب شريعته)، ولا من الاستمتاع بالشواطئ بالملابس (التي تفرضها شريعته)، ولا يمكن للفتيات أن يعتذرن عن حضور حصص السباحة المختلطة (التي تحرمها تحرمها شريعتها) وليس للطلبة في المدارس من خيار سوى أكل وجبة الخنزير (الذي تحرمها شريعتهم) أو قضاء اليوم الدراسي جوعا دون طعام.
أما في رحاب الإسلام، فلا يجبر غير المسلم على التدين بشيء من شعائر الإسلام، ولا يُمنع من شيء يحرمه الإسلام إلا إذا كان ضارا بالمجتمع، وفق القوانين الضابطة للمواطنين جميعا.
———
* المصدر: إسلام أون لاين