لا ريب أن الدراما التلفزيونية صارت تستحوذ على اهتمام عدد كبير من المشاهدين في العالم، وخاصة في المنطقة العربية والإسلامية، فالدراما تجذب المشاهد الذي يرى فيها واقعه الصعب والمؤلم الذي يعيشه، أو الواقع الذي يتمنى أن يعيشه، وتتحقق فيه آماله وأحلامه الجميلة التي يفتقدها.
كانت هناك دراما عربية في عقدي السبعينيات والثمانينيات تشغل الناس، ويتابعونها بشيء من الاهتمام، ويجدون فيها تسلية وتعزية وقتلاً لوقت الفراغ!
ويبدو أن تجّار المسلسلات لم يعودوا يهتمون بالمضمون الذي يبني ويصوّب، ويغيّر ويطوّر، فاستسهلوا تقديم موضوعات سطحية، واكتفوا بتقديم ممثلات وممثلين، تعتمد صورتهم الخارجية على العري والابتذال واللغة الهابطة والحوار المتدني، دون مراعاة لقيم المجتمع وتقاليده، وأخلاقه وسلوكياته.
وهنا ظهرت في العقدين الأخيرين مسلسلات أمريكية وهندية ولاتينية وتركية تستقطب اهتمام المشاهدين العرب والمسلمين، لاعتمادها على «الدبلجة»؛ أي تركيب أصوات عربية على ألسنة الممثلين والممثلات، فتسهل على الأميين متابعة الأحداث الدرامية وتطورها، فضلاً عن موضوعاتها المثيرة، وصور الممثلين والممثلات وطريقة الحياة المختلفة.
الدراما «الرومانتيكية»
استأثرت الدراما التركية «الرومانتيكية» بمتابعة قطاعات عريضة من العرب خاصة، وكانت شخصيات مثل «نور ومهند»، و«فاطمة وكريم»، و«ليلى وقيس»، ونحوها في مقدمة اهتمام المشاهدين، وكانت أماكن التصوير الخلابة والشوارع النظيفة، ووسائل المواصلات من سيارات فخمة، وقطارات سريعة، وسفن أنيقة، ومياه البسفور والدردنيل الفضية اللامعة، وملابس الشخصيات وجمالها وأناقتها، ولغة الغزل المفتقدة بين الأزواج في بلادنا، ومناظر البيوت والقصور من الداخل وما فيها من تحف وزخارف ومقاعد وأسرّة وغرف الطعام والاستقبال والنوم والحدائق الخضراء اليانعة، ودرجة التحرر إلى حد الانحلال، تعجب قطاعات كبيرة من المشاهدين، لدرجة أن بعض النساء في البلاد العربية تأثرن إلى درجة كبيرة بما يحدث في هذه المسلسلات، وتغيرت حياتهن إلى حالة سلبية رصدتها بعض الدراسات العلمية، بحكم أنهن يجدن فارقاً بين واقع يعشنه ولا يرضين عنه، وخيال مصور في الدراما يتمنين الانتقال إليه والعيش فيه.
المفارقة أن المسلسلات التركية التاريخية التي عرضت في السنوات الأخيرة قلبت المعادلة، وحققت أهدافاً إسلامية واجتماعية وسياسية، وهو ما دلت عليه نسبة المشاهدة العالية من جميع الفئات العمرية التي تعشق البطولة والجهاد، وتنحاز إلى الرؤية الإسلامية الإيمانية، والقيم الخلقية التي عاش عليها المسلمون منذ صدر الدعوة.
الدراما التاريخية
لقد وقفت معظم القنوات العربية من المسلسلات التاريخية التركية موقفاً سلبياً، ولم تهتم هذه القنوات بعرضها أو تقديمها للمشاهد، وتنافست في تقديم المسلسلات العربية والهندية السطحية، أو إعادة مسلسلات العشق الممنوع ونحوها لتغطي على الدراما التاريخية، وتسحب المشاهدين إلى دراما العشق والغرام الرومانتيكية، ولكن النتيجة لم تكن كما أحب أصحاب هذه القنوات.
فقد تكرر عرض المسلسلات التاريخية التركية، وزاد الإقبال عليها، وقد بدا اهتمام الجهات المنتجة بالترويج لها من خلال القناة التركية العربية، وتخصيص ميزانيات كبيرة لبثها عبر وسائط مختلفة.
لقد عالجت المسلسلات التاريخية فترات زمنية متعددة، كل مسلسل اختص بفترة معينة تناولها بشخصياتها وحوادثها وأماكنها وأزمانها، وطرح الصراع الذي دار فيها من جوانبه المختلفة، وكان التصور الإسلامي هو الحاكم الذي أدار حركة الأحداث وتناولها، فأظهر طبيعة التسامح الإسلامي في علاقة المسلم مع الآخر غير المسلم، والعدل كما يأمر به الدين، وسياق التعاون والجهاد لرد الظلم والدفاع عن المظلومين.
فمسلسل «قيامة أرطغرل» في أجزائه الخمسة يصور قيام الدولة العثمانية في القرون الوسطى، ويشرح الجهود التي بذلها «سليمان شاه» وابنه «أرطغرل» وحفيده «عثمان» والمتاعب والصعوبات التي واجهت إنشاءها، والحروب التي خاضوها ضد المغول والصليبيين والمتآمرين من داخل العالم الإسلامي.
ومسلسل «السلطان عبدالحميد» يصور فترة حكم آخر سلطان عثماني قوي قبل سقوط الخلافة الإسلامية، وما جرى فيها من مؤامرات لاغتصاب فلسطين بمعرفة اليهود الذين دبروا كثيراً من المؤامرات والمكائد لإسقاط الخلافة عبر الأفكار الشيوعية والماسونية والصهيونية والتحالف مع الأرمن والإنجليز والفرنسيين والروس، وتحريض الأقليات في بلغاريا واليونان والصرب وغيرها للتآمر والتمرد وتخريب البلاد، وإغراء أصحاب النفوس الضعيفة بخيانة دولتهم وإسلامهم.
ومسلسل «كوت العمارة» يعبر عن بطولات خارقة وتضحيات هائلة قامت بها قوات عثمانية ضد دول الغرب الاستعمارية التي عملت على تفتيت الأمة الإسلامية وتمزيق العالم العربي، والضحك على بعض القادة العرب بوعود زائفة لهدم الخلافة، وقد بذل العثمانيون في سبيل ذلك ما يملكون مع فارق القوى بين الغزاة الإنجليز، والمجاهدين المسلمين.
بصفة عامة، فإن المسلسلات التاريخية التركية جاءت في صيغة فنية عالية من حيث البناء القصصي، وبلورة الشخصيات، وصياغة التشويق، وتصميم المكان، والملابس.. هناك بالطبع بعض الملاحظات النقدية الفنية على المسلسلات التاريخية، ولكنها تأتي في إطار الاجتهاد بين المخرج والمؤلف، وتظل في إطار الرؤية الواحدة وهي التصور الإسلامي الذي افتقدته الدراما إلى حد كبير في منطقة العالم الإسلامي قبل ظهور الدراما التاريخية التركية.
ويمكن إجمال أسباب الاهتمام بالدراما التاريخية في تركيا وإقبال المشاهدين المسلمين عليها في النقاط التالية:
أولاً: استرداد الهوية التركية الإسلامية التي افتقدها الأتراك على مدى قرن من الزمان تقريباً، تم فيه سلخ الأتراك عن جذورهم، وقطع صلتهم بدينهم ولغتهم العربية وقيمهم الإسلامية وتاريخهم العريق، وتحريم العمامة، وإلزامهم بقانون «القيافة» الذي يحتم على الرجال ارتداء «القبعة» الغربية، ولبس «الكرافتة»، وفرض كشف النساء رؤوسهن وارتداء الفساتين على الطريقة الأوروبية.
الحنين للقيم الإسلامية
والدراما التركية تعيد الحنين في نفوس الأمة جميعاً إلى القيم الإسلامية والتراث التركي، والأمجاد القديمة التي سجلها الأتراك في صفحات من نور دفاعاً عن الإسلام والمسلمين.
ثانياً: تقدم هذه المسلسلات صورة طبيعية للإسلام ونقائه بعيداً عن التفسيرات الطائفية والعنصرية والاستبدادية والشائهة التي يحاول بعضهم الترويج لها.
فالإسلام في هذه المسلسلات يتعامل مع الناس جميعاً على اختلاف معتقداتهم وألوانهم وأعراقهم بالعدل والرحمة، ولا يعادي أحداً إلا إذا رفع السلاح ضده، والجهاد في الإسلام عمل إنساني لرفع الظلم عن المظلومين، وليس تلذّذاً بالقتل، كما يقول المخرج محمد بايزيد، وليس حباً للحرب كما تفعل بعض التنظيمات التي تنتسب إلى الإسلام ظلماً وزوراً.
وتقدم هذه المسلسلات المرأة في دور مهم وفعّال إلى جانب الرجل بدءاً من البيت إلى ميدان القتال، والمشاركة بالرأي وقيادة القبيلة في غيبة زعيمها، وهي محتشمة تراعي العادات والتقاليد.
ثالثاً: تصحيح التاريخ الذي زوّره الغرب وخدامه العرب والأتراك لتشويه الدولة العثمانية وتحميلها خطايا العالم، وتبرز الدور المهم الذي قامت به هذه الدولة على مدى قرون عديدة في حماية العالم من شرور قوى الظلام الاستعمارية، في اجتياح الأمة الإسلامية والإغارة عليها، والاستيلاء على أراضيها وثرواتها، فقد حاربوا المغول والغزاة الأوروبيين، وحموا الثغور والمدن الإسلامية من المحيط إلى الخليج، وقاموا بتأمين الحرمين الشريفين وخدمتهما، وعندما سقطت الخلافة، اكتشف القوميون والطائفيون أن الغزاة الغربيين كانوا كاذبين في وعودهم وادعاءاتهم!
رابعاً: لا ريب أن الدراما التاريخية التركية عزفت على وتر حساس لدى المشاهد العربي بالذات؛ فقد رأى الحلم الذي يريده لنفسه مرسوماً على شاشة «قيامة أرطغرل»، و«السلطان عبدالحميد»، و«كوت العمارة».. وغيرها، رأى أمجاداً يتمناها، وأحلاماً يتمنى تحقيقها على عكس «العشق الممنوع»، و«نور ومهند».. رأى انتصارات غابت عنه في الواقع الراهن وهزائم تطارده في الصحو والنوم، وجاءت بطولات أرطغرل وباشوات عبدالحميد والأسكوبلي تعوّضه عن واقع مهزوم مريض مليء بالدم والدموع، وتقول له: إن تحقيق البطولات ممكن إذا توافرت الشروط.
______________
(*) أستاذ الأدب والنقد.