وضع عم رمضان يده على ظهره؛ يتوكأ عليها وقد ضربه الزمن بمعوله، صار أشبه بقوس قزح، تعلوه حدبة ناتئة، يمشي وكأنما هو مكلف بعد الحصى، يجمع أفكاره المتناثرة حين تغيم ذاكرته وراء تلال من الفوضى، دب فيه الوهن، صار حطام رجل يئس من حياته؛ تبدلت الأيام كما السنة تغير فصولها، خريف وراءه شتاء؛ توقفت عقارب ساعته المربوطة في صداره، تتطوح عمامته كلما هبت زوابع أمشير.
لا زوجة تؤنسه في زمن الجدب، يحنو على جمله طفله الذي خرج به من الدنيا، يرونه يحكي ويسامره، يدخن لفيفة تبغ يتقاسمها معه، يضحكان كل على طريقته، لا تجد أليفين في كفرنا مثلهما، حتى لا يذكر عم رمضان إلا وجمله معه، عشرة والعهد بالناس تتبدل وتتغير.
قالت: حين كان الشتاء يخر فوق رؤوسنا؛ يبدو أن السماء انخرمت، فك جمل عم رمضان عقاله، وجدها فرصة للعب، يقفز هنا وهناك، يدخل رأسه في نوافذ البيوت الطينية، يحدج بعينيه في الصبايا، يتعارك مع الحمير، يجري وراء الأغنام، يتبعه عم رمضان مهددا، يتراقص كلما رفع عصاه، مثل طفل يلهو.
وعند الفجر كان يصطف خلفه يصلي!
لم يعد في القرية جمال غيره؛ نسي الناس الحصاد، صاروا يزرعون الأراضي علبا إسمنتية مشوهة، سكنت أبراج الحمام غربان وبوم.
كتب ممسوسة ملقاة في النهر؛ سحره الأحباش، حبسوه في قمقم، لم يأت زمن المهدي المنتظر، الأبواب موصدة، الأغا مربوط في ساقية تدور عكس عقارب الساعة؛ فوضى ولا ميزان لها.
ينكره الصغار، يرونه قادما من زمن بعيد، أصاب الخرس المحروسة في رأس التين والملك إلى منفاه.
تجري الخيول في الكفر وقد انفلت عقالها، اختلط الحابل بالنابل: عم رمضان يبكي آباءه.
يجري قطار الدلتا يشق ظلام الليل بصافرته التي تشبه نفخة القيامة، صوت مولانا الخضري من فوق مأذنة الجامع القبلي: الصلاة خير من النوم!
يلبي النداء منذ وعى الليل والنهار، حتى قيل إن الجمل يصطف خلفه للصلاة.
حين جاءوا بحرابهم يخطفون أجران القمح، أبى عم رمضان أن يتبدل، بقي هنا والآخرون ركبوا قطار الندامة يسكنون علب الصفيح على حافة المحروسة؛ امتلأت بهم مثل أكوام النفايات. خبأ جمله وسط الحقول، ثم خرجا مع طلعة الفجر.
يعيث الأغوات في الحرملك فسادا؛ نهيبة لكل من هب ودب، قصور ووسايا، أوقاف أكلت الفئران حجيتها، وحده مصاب بالهذيان؛ حريق اشتعل في الصدور، حمام أبيض ملقى في النيل؛ ينام الكفر من المغرب؛ أبقاره هزيلة تجر أرجلها، نساؤه متشحات بالسواد، يئن العصفور فوق غصن يابس.
يمﻷ عم رمضان كفه من طين أرض الدوارة؛ ما عاد غير نبات العليق يصعد فوق أشجار الجميز العجوزة.
نسي اسمه حين أنكره زمنه، منديله المحلاوي؛ جمله هو الآخر يوشك أن يودع الحياة، يرتحل الطيبون كل آونة، تسقط الأوراق تباعا، نسي الناس قطار الدلتا كما لعنوا أرض الوسية، يتعاركون حول أفران الخبز المدعوم؛ يلوكون الحكايات عن خصور النساء، يتلاعنون أيهم يختلي بأجهزة الهاتف المحمول، قشور زائفة وعقول مكدسة بالنزق.
صريخ في البر، وجدوا عم رمضان وجمله في العالم الآخر، طار الخبر في الكفور والعزب؛ تقاسموا فيما بينهم؛ مولد سيدى رمضان وجمله؛ كفرنا يحتفي بالأموات؛ يراهم أحق بالذكرى، سنوات وهما في طل الليل، تحرقهما شمس بؤنة؛ تعميهما زوابع أمشير، أكل منهما الفقر وشبع؛ حتى إذا ماتا صارا من الأولياء!
توقفت ذاكرة جدتي، رأيتها تتبع طيفا يغيم وراء تلة عم رمضان، أسرعت إلى حيث يرقد؛ نذرت نصف كيلة من الفول النابت، أطعمت اليمام حبات قمح، رأيتها تدعو ، رفعت رأسها إلى السماء؛ تساقط المطر؛ قفلت عائدة وقد تبلل ثوبها.