أبحث عن اسمي في قائمة الموتى، فثمة نعاة مطلع كل شمس ينادون على راحل، أخاف أن يفترسني هذا الغول؛ صدقوني أنتعل حذائي، أحضر بطاقة هويتي الممغنطة، أرتدي ثيابا رسمية؛ ربما أقابل أحد المسئولين، زوجتي هي الأخرى نسيت عطورها، ﻻ تشتري أدوات زينة مثلما تفعل ياقي النسوة فالمدينة متخمة بداء النزق، لا تكف إعلانات التلفاز تغري برغبات آثمة؛ نعاني خريفا مستمرا، أشجار حديقتنا لم تعد تورق، جذورها عليلة، كل هذا نذير، حتى إذا ما حان موعدي استطعت المرور بين يدي حارس المقابر، سأوصي أولادي بأن يهبوه بعض لحم شهي، يقال عنه كلام عجيب؛ يضع خاتمه الناري على ظهر العابرين إلى العالم الآخر؛ في ليلة حالكة السواد، يتسرب داخل الأحياء ويدفع بهم إلى تلك الجبانة؛ لقد استأثر بمكانة مفزعة، بعضكم سيتهمني بالجنون، حديث يثير داخلي أسئلة عدة، ربما لم يحن بعد دوري في ركوب هذا الصندوق المحمول، كل ليلة أتصفح سجل الذين أوصى بهم الأطباء خيرا، في البداية كنت مصابا بالفزع، حين أعثر على صديق لي كان مدرجا على تلك القائمة ثم أجده يمشي بين الناس أتهم تلك اللائحة بالخرف، تبدو غير دقيقة، ثمة متسلل يتلاعب بها، في الليل وحين يأوي الجميع ويخلدون إلى النوم، غطيط جدي يشبه صافرة القطار، يتسامع به الجيران، يصدر عنه ذلك الصوت، تمزح أختي قائلة: جدنا يعزف السيمفونية الثامنة لبتهوفن، آه لو أخبرتها بما يترآى لي: قطط سوداء تسقط أوراق شجرة التوت، يفتح ثعلب كريه فمه ليلتهم كل ورقة، أما أنا فأتأرجح بين السماء والأرض، بومة غريبة تنشر جناحيها تحاول أن تبتلعني، يأتي طائر أخضر فيتعارك معها، تنظر إلي بعينيها الماكرتين، ترمي بحجر فيسيل منه دمي، تشعر أمي بحاجتي إلى الماء؛ تهب مذعورة، أشرب ومن ثم أظل خائفا من أن يسرقني النوم مرة ثانية.
وصاحب لي ارتدى قناعاً يحسبه ينجيه من مخالب السباع، استمرأه حلاً له أن يظل به يوما آخر، نسي اسمه، صار أحد الذين ثقبت ذاكرتهم، تواعدت معه أن نمشي إلى العالم الآخر معا، خدعني وظل متشبثا بأرجوحة الهواء المربوطة بخيوط العنكبوت.
ثقبت أمي أذني اليمنى، يتدلى من رقبتي حبل مسبحة تناثرت حباته، طافت بي مقامات أولياء الله الصالحين؛ تخيلوا أشاروا عليها بأن تدعني أسبوعا كلاماً مع أهل الطريق، ألبستني ثوبا أبيض، عممتني بشال أخضر، نذرت لله أن توزع كيلة من الفول النابت وأرغفة محشوة بلحم خروف؛ إن عدت بارئا من وساوس الجن.
في الليلة الأولى لم أنم؛ جاءت إلى امرأة تتراقص، صار الليل نهارا يسبح فيه الموتى من كل ناحية، تضربني بخاصرتها، أقعى أمامها جروا، في الصباح تساقطت أوراق كثيرة من شجرة التوت؛ لم أجد لي مكانا بين هؤلاء الذين ذهبوا إلى العالم الآخر؛ القرية تخرج لتسلم الموتى إلى الباب الآخر بخطاب لا يحتاج إلى علم وصول، لم يعد واحد من هؤلاء السابقين ليخبرنا بما عاينه هناك.
يوصدون عليهم بأحجار وتل من الرمل؛ يقال: حتى لا يزاحم الذين أوصلوه إلى هنا، يخبرنا شيخ المسجد: لم تعد له شربة ماء؛ النهر مهدد بالجفاف فعلى المدرجين في تلك القائمة أن يغادروا مسرعين.
كلما جاءتني أمي بكوب الماء أرتعد خوفا على النهر؛ علي أن أدعه للقادمين، تعيذني بالله ثلاثا من شر الوسواس الخناس، أتدثر بغطاء سميك، تلف أمي حول وسطى حبلا؛ تقيدني ببعضه؛ خشية أن أمشي وأنا نائم، في الليلة التي أمطرت فيها السماء وألقت بقطع من الثلج كنت مصابا بحمى شديدة، مقصلة تتراقص تحتها رأسي، يعزف جوقة-يرتدون ثياب حفلة تنكرية- ألحانا جنائزية، تتداخل أثناءها مقاطع لبيتهوفن، أؤدي دور المايسترو، أرتدي الرنجوت؛ أشير بريشة أوزة تتداخل النوتة الموسيقية، السلم يخلو من درجاته الصوتية؛ أسمع صغارا في المهد : دو ري مي فا صو لا سي !
ضوضاء يتبعها هتاف، موسم النفاق حان وقته، هذه عادة لا تنتهي وحكاية معادة أشبه بساقية جحا..
أبدو كغراب يبحث في الأرض؛ تظهر سوأتي، لا يهتم بي غير أختي، تأخذ بيدي ومن ثم تخفيني من ذلك الثعلب الذي يلتهم أوراق شجرة التوت. لوحة سيريالية شديدة الغرابة.
يبدو أن الخيول متعبة؛ طال الشتاء، هذه أيام قل فيها الحب، تجمدت الشوارع المحيطة بنا، تبعثرت خيوط الحكايات المختزنة لليله الطويل، لا شيء غير الملل والانتظار المقيت، يخبو ضوء المصباح؛ أوشك السواد أن يفترس العمر، إنه زمن اشتهاء الأحلام الجميلة، حتى الوجوه صارت ممتلئة بخيوط الكآبة، لا أحد يهتم بواجهة بيته، النساء هن الأخريات أهملن زينتهن ما عدن متبرجات بزينة، تفر القطط إلى الحارات الخلفية غير آبهات بحنين العجائز، حقا لقد خيم الصمت على النوافذ، يرتد صداه مطبقا على الحجرات المثقلة بالوجع، في الجهة المقابلة ثمة احتفاء مثير، يتراقص عقرب الساعة مخمورا، تتصارع الشهوة كأنما هي غابة تفترس الحملان، تدور طاحونة الرغبة الضالة التي ظلت عالقة في خيوط العنكبوت، ليل في حمرة الشفق، نجوم تقترب من السفح، الشمس والقمر يتجاذبان اللهو في عالم ثمل من عربدة الشيطان، في الجهة المقابلة أطفال يتجنبون النهار، يسكنون أقبية الموت، السماء تلقي بكتل نار، أحقا هذه لوحة سيريالية بكل ما تدل عليه هذه المفردة التي صارت عنوانا لعصر انفلت من قيده؟!
في نشرة الأخبار أرقام الغرقى الذين ابتلعهم البحر، ويا للأسف لم يذكر أين استقرت بطاقات هويتهم!
تحوم الغربان في السماء، لقد فرت أسراب الحمام، لم يعد غير اللون القاتم الذي يعبر عن عبثية المكان وتفاهة الإنسان.
حاولت جاهدا أن أطرد تلك الهلاوس التي لازمتني طيلة هذا الشتاء، الموقد الحجري لا يعطي غير دفء باهت، الطعام هو الآخر محشو بالروتين اليومي لا جديد غير أن الألم يزداد، الفراغ هو عنوان يناسبني بل أصبح حتما علي أن أتعامل معه، اعتدت أن أهرب من هويتي، أخذت أتعامل ببلاهة مع المحيطين بي، فكرت أن أبدل ثيابي التي تشي بي، وضعت رابطة عنق خضراء، متى رآها القابعون في السرداب المطبق عليهم أشعرهم بأن الأمل يلوح بعيدا، لكن أحدا لا يخرج منه، يبدو أنهم ناموا مثل أهل الكهف، أبحث عن مدخل آخر إليهم، ترى هل سأجد لجسدي المثقل بحمله فرجة بينهم؟
لا أحد يعرفني، لا يهم فكل هؤلاء مثلي لا يعطون للواقف عند بوابة الجبانة بطاقة هوية، يعرفهم بسيماهم؛ الحزن والعجز والنحول، وفقدان الرغبة في تعاطي الحياة!
وحده يتململ من ذلك الغبش الذي يعلوه، الصافنات الجياد تضرب بقوائمها، يستحثهم أن يتحركوا بعيدا عن المدخل المرصود!
صرت أكثر ولعا بما فات، رهين شارع النسيان الذي أمسك بخلايا مخي، أحاول أن أهرب من أبعاد اللوحة المتداعية رغما عني تتشبث بي ألوانها؛ قيل لي في يوم : الأسود لا يليق بك!
تساءل البعض: لم هذا الوشاح يلوح وشما فوق وجوه كانت في يوم تغازل القمر، انتبهت فقد انتهت الساعة المحددة للصحو، علي أن أقبع مجددا في ممر السرداب، هذه حالة تلازم القيد الذي كلف بي دائما!
توجب علي التسربل بأغطية جدتي العتيقة، لا نفع من تلك المصنعة في بلاد لا تعرف للحياة غير طلقات مسمومة، في بلادنا عاش الإنسان مرفوعا فوق رؤوس الأشجار، أنتمي لهذا الثرى المشمول بعبق الزمان وحلاوة الأمل، أتجذر بأعمق طيات الوادي.
كل الراحلين أوصوا لي بأقلامهم وأوراقهم البيضاء، يتركون الصفحة الأولى خالية، يضعون بعض وصاياهم، يلتمسون في الوفاء؛ ﻻ يدرون أنني هزيل، يحلو لي النوم ساعة يغلق الشيخ المسجد، تطلب منه أمي أن يخصني بدعوة؛ لا تكف أنيابه عن تمزيق لحم أزواج الحمام.
مضى زمن من وراءه سنوات تبدلت سحن الناس في كفرنا، الأبواب موصدة على هم ثقيل، يبدو أن حدثا خطيرا قد انطوت عليه، ينكر بعضهم بعضا، دب الشيب والعجز في أجسادهم، أخذت أتلفت كل ناحية، الشواهد كما هي، بل الحقول كما غادرتها لا اهتزاز لشجر ولا اجتناء لثمر.
حملتني رجلي إلى دارها، كنت فيما مضى أرجوها حبيبة لي، رأيتها ليلى، ولكل محب ليلاه، أترقب وجهها، نظرة عينيها، وجهها بكل ما رسمته داخل عقلي من صورة الأنثى التي يبحث عنها الرجل، كل هذا صار متحجرا، نضب ماء الحب.
انصرفت حيث يلقي المهموم شكايته إلى من يألفه؛ تجرى الأقدار إلى غاية واحدة، تمسكت بقبضة هواء، أتنهد هموم لحظة تغتال الحاضر الذي ارتسم وهما.
يعقد الفزع حباله في كل ناحية، يتلازم الخوف والقهر كما لو كان الكفر يتلاعن عند ضفة نهر متخشب، وللشوق أجنحة تحمله حيث يضع خده عند عطر أحبته.
أي شيطان سرق الربيع!
غامت السماء بسحب كذاب لا تسقط مطرا ولا تبلل ثرى متعطش.
في منعطفات الكفر ألف أثر لغربان تسكن الخرابة، تصدر نعيقها كل آونة، تنتهش اللحم وتنثر بقاياه عند جبانة المجرية؛ سنوات عزلة تقارب مائة ماركيز؛ لكل بلدة طامتها وأحزانها التي تعرفها.
تتزين نسوة كفرنا بألوان باهتة، أسمال من خلق سوداء، يزحف الوهن ويسري الصوت في فزاعة ليل شتوي لا نهاية له