– للجغرافيا والبيئة تأثيرات مباشرة وغير مباشرة على الإنسان في تفكيره وسلوكياته
– لن يخرج الإنسان من إسار بيئته إلا إذا تجوَّل ورأى أناساً غير الناس وطباعاً غير الطباع
– التجول في البلدان يعلّم العلم دون شيخ ويُبعد عنك التعصب دون مرشد
– التجوال قد يُحدث صدمات بالقناعات فيراجع المرء نفسه حتى تكون أحكامه قريبة للصواب فيقل التعصب عنده
تترك البيئة بصمتها الواضحة على الإنسان، وتضرب حوله سياجاً يجعله شبه منعزل عن العوالم الأخرى والبيئات المجاورة أو البعيدة.
ففي البيئة الواحدة تنصهر عوامل عديدة لتخرج لنا مركَّباً متجانساً؛ فاللغة واحدة، والعادات والتقاليد واحدة، والدين إلى حدٍّ كبير واحد، والفكر متقارب إن لم يكن متشابهاً، حتى إنه ليصل الأمر لوجود تشابه بين أبناء البيئة الواحدة في الشكل نتيجة للتزاوج والمصاهرة فيما بينهم.
للجغرافيا والبيئة تأثيرات مباشرة وغير مباشرة على الإنسان في تفكيره وخياراته وسلوكياته وثقافته، وذهب البعض إلى تأثيرها في دينه ومذهبه.
فالبيئة الصحراوية -مثلاً- تطبع ساكنيها بطباع تختلف عن طباع أهل الوديان ومجاري الأنهار.
وساكنو الجبال لهم من الطباع ما يختلفون بها عن ساكني شواطئ البحار.
ومن يعيش بين الحيوانات المستأنسة غير ذلك الذي يعيش بين وحوش البرّيّة.
لذا، فإن طبيعة الأرض والمناخ والموقع والموارد ركن أساسي في تشكيل شخصية الأفراد، وتحديد الخصائص النفسية والاجتماعية والسلوكية للسكان، وتكوين ثقافة المجتمعات، ورسم سياسات الدول، وصولاً إلى تفسير أنماط الحكم والإدارة(1).
كل هذه المؤثرات تجعل الإنسان أسيراً لبيئته، قد يظنُّ نفسه حراً، ولكنه في الحقيقة يمتلك حرية منقوصة؛ فحكمه على الأشياء لم يكن نابعاً من ذاته تماماً، بل بما طبعته عليه بيئته، وبما شكّلت تصوره؛ فيوجِّه هذا التصورُ العقلَ للحكم على الأشياء لا بما هي على حقيقتها، بل بما طبعته البيئة عنها في العقل.
ويزداد هذا الحكم أصالة وتمكناً في النفس الفردية حينما ترى العقل الجمعي يشاركها في نفس الحكم؛ إذ إن العقل الجمعي أسير كذلك لتلك البيئة.
وهذا المعنى يتجلى عندما تقف على حال تلك المرأة التي غيّرت بيئتها فحنَّت إليها، وكان تأثير بيئتها الأولى في حكمها على الأشياء واضحاً.
يقول ابن طيفور: كان يزيد بن هبيرة المحاربي أول أمير ولي اليمامة لعبدالملك بن مروان؛ فتزوج امرأة من ولد طلبة بن قيس بن عاصم المنقري فقالت:
لَلُبْس عباءةٍ وتقرَّ عيني أحبّ إليّ من لُبْس الشُّفُوف
وبيتٍ تخفُق الأرواح فيه أحبّ إليَّ من قصرٍ منيف”(2)
فهي تحبّ بيئتها الصحراوية والبادية التي كانت تعيش فيها، وتزهد في النعيم الذي ترفل فيه بالمدينة.
فهي لم تخرج عن إسار بيئتها والتصورات التي فرضتها تلك البيئة والأحكام الناشئة عنها.
ومن سلبيات هذا الأمر التعصب وضيق الأفق وقصور التصورات والأحكام.
ولن يخرج الإنسان من إسار بيئته إلا إذا تجوّل في البيئات، ورأى أناساً غير الناس، وطباعاً غير الطباع، ومذاهب غير المذاهب، ولغات غير اللغات، وثقافات غير الثقافات، وعادات وتقاليد غير تلك التي يعرفها؛ عندئذ تنفتح أمامه الآفاق، وتتسع المدارك، وتتغير التصورات والأحكام.
وإذا حاولنا أن نوضح مقصدنا بضرب الأمثلة، فها هي بعضها:
1- المذاهب الفقهية: انتشرت المذاهب الفقهية في الأقطار العربية والإسلامية، واختص كلّ مذهب من المذاهب الأربعة بقُطر أو عدة أقطار.
وفي البلد الذي ينتشر فيه مذهب فقهي ما نجد أن أهل هذا البلد يؤدون عباداتهم على هذا المذهب؛ فمثلاً المذهب الشافعي يرى القنوت في صلاة الفجر كل يوم دون أن تكون هناك نازلة من النوازل، ويكون جهراً بعد القيام من ركوع الركعة الثانية.
وكذا المالكية يقنتون في صلاة الفجر سراً بعد الانتهاء من القراءة في الركعة الثانية قبل الركوع.
وفي المقابل لا يرى الحنابلة ذلك سواء أكان جهرياً أم سرياً.
فالذي لم يغادر بلده يظن أن فعل أئمته هو السُّنة القاطعة، وأنه القول الفصل، لكنه إذا خرج من بلده وساح في البلدان الإسلامية الأخرى لرأى أن الأمر أكبر وأوسع وأشمل، وكل المذاهب لم تخرج عن السُّنة، ولم تدخل في باب الابتداع في الدين.
2- القراءات القرآنية: رغم أن القرآن هو كلام الله المتعبَّد بتلاوته، الحاكمة شريعته، البالغة حجته، فإنه لم ينزل على حرف واحد، وليس له طريقة واحدة في تلاوته؛ فعن عُمَر بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أنه قال: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْرَأَنِيهَا، وَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ، ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا.
فَقَالَ لِي: “أَرْسِلْهُ”.
ثُمَّ قَالَ لَهُ: “اقْرَأْ”. فَقَرَأَ، قَالَ: “هَكَذَا أُنْزِلَتْ”.
ثُمَّ قَالَ لِي: “اقْرَأْ”. فَقَرَأْتُ فَقَالَ: “هَكَذَا أُنْزِلَتْ، إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَؤوا مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ”(3).
وأصحاب كل بلد قد يحدث منهم مثلما حدث من الفاروق عمر؛ إذ إنهم ألِفوا قراءة واحدة لانتشارها في بلدهم، وعدم اطّلاعهم على القراءة الأخرى، فيبادرون بتخطئة الآخرين، لكنهم إذا تفكّروا في الأمر لعلموا أن هذه قراءة أخرى صحيحة صحّة قراءتهم تماماً بتمام.
فمثلاً في قراءة حفص: ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ﴾ (البقرة: 9)، وفي قراءة ورش: ﴿وَمَا يُخَادِعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ﴾.
وفي قراءة حفص: ﴿فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ﴾ (الزخرف: 53)، وفي قراءة ورش: ﴿فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ﴾.
والسفر والتجول في البلدان هو الذي يعلّم العلم دون شيخ تجلس بين يديه، ويُبعد عنك التعصب دون مرشد يأخذ بيديك.
3- النحو: تفريعاً على مسألة القراءات القرآنية، لا يمكننا أن نغفل أمر النحو، وأن الإعراب له أوجه متعددة، وقد تجلى ذلك في القراءات القرآنية؛ فقد تكون معتاداً على إعراب ورد في تلك القراءة، فتفاجأ بوجه آخر من أوجه الإعراب في قراءة أخرى.
فمثلاً في رواية حفص: ﴿إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ﴾ (البقرة: 282)، وفي رواية ورش: ﴿إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةٌ حَاضِرَةٌ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ﴾.
يقول الزجاج: “أكثرُ القُراءِ على الرفع (تِجَارَةٌ حَاضِرَةٌ) على معنى: إلا أن تقَع تِجارةٌ حاضِرة، ومن نصب “تجارة” -وهي قراءَة عاصم- فالمعنى إلا أن تَكونَ المُداينة تجارةً حاضرةً، والرفع أكثرُ، وهي قراءَة الناس”(4).
فمن اعتاد قراءة حفص وسمع من يجعل “كان” تامّة فإنه قد يبادر بالتخطئة، لكنه إذا علم صحة تلك القراءة فإنه يتسع أفقه ويقلّ إنكاره.
وهكذا على طول أوجه الإعراب المختلفة في القراءات القرآنية، ولا يتأتى ذلك لأحد -دون أهل العلم والمختصين- إلا من تجوّل في البلدان وساح في الأمصار.
4- العادات والتقاليد: تختص كل أمة ببعض العادات والتقاليد التي تميزها عن غيرها من الشعوب، وما اعتاده الإنسان في موطنه من عادات قد لا يجد مثيلتها في البلد الذي سافر إليه؛ فمثلاً في المشرق العربي وخصوصًا مصر والشام يهتمون جدًّا بالألقاب والأوصاف؛ فهذا: الأستاذ فلان، وذاك الطبيب علان، والآخر الباشمهندس كذا، وإذا نزعت عنه صفته وناديته باسمه يغضب ويستشعر الإهانة وعدم التقدير.
لكن في بلاد المغرب العربي مثلاً لا يهتمون بمثل هذه الألقاب والأوصاف، فينادون الإنسان باسمه أو لقبه العائلي، وليس هذا من باب الإهانة، بل من باب التبسُّط وعدم التكلُّف في العلاقات.
فمن تمسك وأصرَّ على تقاليد بلده في التعامل وتعصب لها فلن يهنأ له عيش.
وفي الأطعمة التي أحبها المرء واعتادها في بلده قد لا يجدها في مكان سفره وترحاله مثيلاً لها، ويرى أصنافًا أخرى من الأطعمة، وهنا لا بد أن يتأقلم مع الوضع الجديد، وإلا سيكون منبوذًا في المكان الجديد الذي حلّ فيه ونزل عليه.
والمجالات التي يتجلى فيها أن السفر والسياحة والتجول في البلدان يقلّل من الإنكار على الآخرين، ويوسّع من دائرة القبول للاختلاف، ويدفع التعصب أو يخفف من حدَّته، كثيرة جداً ومتعددة، وما أسلفناه إنما هو لضرب المثل فقط، وليس للحصر.
وقد قال الشاعر:
تَغَرَّبْ عَن الأَوْطَانِ في طَلَبِ الْعُلُا تَفَرُّجُ هَمٍّ وَاكْتِسابُ مَعِيشَةٍ
وَسَافِرْ فَفِي الأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِدِ وَعِلْمٌ وَآدَابٌ وَصُحْبَة مَاجِد(5)
فالعلم والآداب الجديدة المكتسبة كلّها قد تغيّر من تصورات أصحابها وأحكامهم السابقة وانطباعاتهم.
والسائحون والجوالون يرون أنفسهم من خلال أعين الآخرين، ويرون الآخرين مشاهدة لا سماعاً.
وهذا التجوال قد يُحدث صدمات في القناعات فيراجع المرء نفسه؛ حتى تكون أحكامه قريبة للصواب، ويرى الأمور على ما هي عليه في حدّ ذاتها، لا ما قد فرضته عليه ظروف بيئته ومحيطه الذي كان يعيش فيه ويحياه.
وكلّما قرُب من هذه الدرجة؛ قلّ تعصبه، وزاد وعيه، وانفتحت بصيرته.
_______________
الهوامش
(1) محمد فتحي النادي: طبائع المصريين، ص(4).
(2) ابن طيفور: بلاغات النساء، ص 116 باختصار.
(3) أخرجه البخاري في “الخصومات”، باب: “كَلاَمِ الْخُصُومِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ”، ح (2419) ومواضع أُخر.
(4) أبو إسحاق الزجاج: معاني القرآن وإعرابه، (1/365-366).
(5) هذا الشعر منسوب للإمام علي وللإمام الشافعي.