ساعدت دورات التنمية البشرية الناس على فهم أنفسهم ومَن حولهم بشكل أفضل، وساهمت في إكساب المشاركين فيها بعض المهارات التي كانوا يفتقرون إليها، كما أنها ساعدت الكثيرين على الخروج من حالة العجز النفسي واليأس، وأعطتهم جرعات من الطموح والحماس والعزم على تجاوز الإخفاقات والإحباطات وكسر حاجز الخوف والكسل.
نظراً لأن كل شيء مهما كان محموداً إذا جاوز حد الاعتدال والانضباط يصير ذميماً، فإن طفرة الدورات التدريبية التي حدثت قبل 25 سنة تقريباً قد أحدثت حالة من الهوس بحضورها، وإلقائها، فأصبح كل من هبَّ ودبَّ يدخل في هذا المجال ولو لم يكن مؤهلاً، وصار البعض -من المتدربين- يرى هذه الدورات حلاً سحرياً لجميع المشكلات والتحديات النفسية والأسرية والاجتماعية والوظيفية، والبعض الآخر -من المدربين- يراها مصدراً للكسب السريع السهل.
ومن خلال متابعتي وقراءاتي وحواراتي في مجال التدريب والتنمية البشرية، لاحظت أموراً قد يتفق معي في ملاحظتها الكثيرون:
تفكك العلاقات الاجتماعية:
أدّت المبالغة في التحفيز وبناء الثقة بالنفس إلى ما يشبه بيع الوهم والأماني وتزييف الوعي بالذات وتضخيمها؛ بحيث يخرج الشخص من هذه الدورات بثقة مفرطة غير واقعية بنفسه وقدراته، وذاتٍ متضخمة يصعب عليها التعامل مع الناس بذكاء وجداني، ويصعب على الناس تقبلها.
وساهم التركيز على «الأنا» وحب الذات ورعايتها وتدليلها في هذه الدورات في تكريس النرجسية والأنانية المفرطة على حياة الناس، وأدى لاختلالات كبيرة في نمط العلاقات الاجتماعية والأسرية؛ سواء بين الأصدقاء، أو الآباء وأولادهم، أو الزوجين، ولذلك رأينا وسمعنا عن حالات كثيرة من انتهاء الصداقات وتفكك الأسر وحالات الطلاق؛ بسبب المفاهيم الخاطئة التي تروج لها هذه الدورات، وأصبح شعار «ذاتي أولاً» سبباً لإهمال الأولاد واختلال معنى الأمومة.
انحراف فكري وعقدي:
الأخطر من ذلك أن دورات التنمية البشرية بدأت تدخل في انحرافات فكرية وعقدية؛ يترتب عليها خلل في منظومة التفكير والاعتقاد، منها على سبيل المثال:
1- الترويج لقانون الجذب أو طاقة الجذب «أنت تجذب ما تفكر به»، ويعبرون عنها أحياناً بـ»ما ترسله يعود إليك»، وهم يعتقدون أن هذا من باب حسن الظن بالله تعالى؛ «أنا عند ظن عبدي بي»، والحقيقة أن قانون الجذب يختلف تماماً عن حسن الظن بالله، فهذا القانون يتعارض مع الإيمان بالقدر، ويقول: إنك تتحمل كامل المسؤولية عن كل خير أو شر يصيبك، وإن تفكيرك بالمرض أو المصيبة هو الذي جذب لك هذا المرض وهذه المصيبة، لا مجال لفكرة الابتلاء هنا! يترتب على ذلك إرهاق النفس وتحميلها ما لا تحتمل من العبء الثقيل، وصرف الإنسان عن التعامل مع الله تعالى كخالق ووكيل ومقدّر للأقدار ومدبّر للأمور.
وكم رأيت من العبارات المنتشرة على لسان رواد دورات الجذب والطاقة وتلاميذهم التي تنبئ عن هذا الخلل الخطير في الاعتقاد، مثل: أنا أصنع أقداري، عالمي يعتني بي، الكون يستجيب لنواياي، أرسل نيتك للكون.. إلخ، وتنحية الدعاء المتضرع لله تعالى، والإقبال على إرسال النوايا للكون، وترديد التوكيدات الإيجابية (مانترا)، مثل: «أستحق الحب والسلام»، «أنا أستقبل الطاقات النقية الجيدة»، «أنا أحصل على ما أريد بيسر وسهولة»، وقد ذُهلت حقيقةً عندما شاهدت مقطع فيديو لأحد الشباب الخليجي المدربين في علوم الجذب والطاقة والوعي يردد فيها «مانترا» لتحقيق الأمنيات: «كُنْ ن ن ن»، يرددها بصوت رخيم ويطيل عند حرف النون ويعيد تكرار «المانترا»، ثم يذكر الآية: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس: 82)، وعندما انتقدناه على «تويتر»، وكثر المستنكرون له؛ جعل الفيديو خاصاً لا يستطيع أن يشاهده على «يوتيوب» إلا من يسمح هو لهم، كما أن مدربة كبيرة مشهورة في قانون الجذب صرحت في مقابلة تلفزيونية أنه لا قدَر -بالمعنى الذي نؤمن به كمسلمين- ولكن المقصود بالقدر هو القُدرة!
هذا الفهم الخاطئ الذي يفترض، بحسب زعمهم، أن يجعل الشخص أكثر قوة ومسؤولية وحماساً لتغيير واقعه قد سبب انهيارات نفسية لدى الكثير من المنتسبين لهذه الدورات، وحالة من الغضب الداخلي والإحباط الشديد عند عدم القدرة على «تحقيق النوايا»، و»جذب الأقدار»، وكتب أكثر من طبيب واستشاري نفسي على «تويتر» عن الحالات التي تراجعهم بعدما تضررت نفسياً من قانون الجذب.
2- تأثرت دورات الطاقة والجذب كثيراً بمفردات وعقائد الديانات الشرقية، ودخل فيها الكثير من ممارساتها وطقوسها، وهذا واضح جداً لكل باحث منصف، فـ»التأمل»، و»اليوجا»، و»الريكي»، و»طاقة البران»، ومصطلحات مثل «غورو»، و»أڤتاروماستر»، وتنظيم رحلات للتبت والهيمالايا والهند والمعابد البوذية؛ أصبحت جميعها لا تخفى على أحد، ولا يختلف في دلالاتها اثنان.
والبعض يدافع عن هذا التأثر والاقتباس أنه لا يضر ما دام في أمور الدنيا وليس الدين، ويستشهد بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «الحكمة ضالة المؤمن»، و»اطلبوا العلم ولو في الصين» -علماً بأن الأول إسناده ضعيف جداً ولكن المعنى صحيح، أما الثاني فليس بحديث- بينما في الحقيقة أن التأثير تعدّى الأمور الدنيوية إلى العقائد الدينية، كما أشرنا أعلاه، فيما يتعلق بالإيمان بالقدر واختلال توحيد الربوبية من حيث الاعتقاد أن الإنسان يشارك في صناعة قدره، ومخاطبة الكون والطلب منه والامتنان له ونسبة الشفاء والرزق والإسعاد إليه.
ومن جانب آخر، تتبنى هذه الدورات الإيمان بأمور غيبية لم يأتِ بها الوحي ولم يُثبتها العلم، مثل: تأثير ذبذبات النية، والشاكرات، والهالة، وفضاء الاحتمالات.. وغيرها، بل إن بعض هذه الأمور الغيبية تخالف الوحي؛ كتأثير مواقع النجوم والقمر على طاقة الأرض، وادعاء معرفة الغيب من خلال استخدام «الداوزينج»، وادعاء تأثير الأثاث وأماكن توزيعه في الغرفة على الحظ والقدر (علم «الفينغ شوي»)، وادعاء قدرة الإنسان على تذكّر كلما مر به من يوم أن كان جنيناً في بطن أمه عندما يتم علاجه بخط الزمن.. وغير ذلك كثير مما لا يُحصى.
إضافةً إلى ذلك، تتبنى هذه الدورات مفهوم «الكارما» كاعتقاد راسخ، حتى شاع لفظ «الكارما» بين العامة، وأصبح البعض بحسن نية يعتقد أنه مساوٍ لمبدأ «كما تدين تُدان»، ويغفلون أن «الكارما» عقيدة هندوسية بامتياز، لا تنفك عن عقيدة تناسخ الأرواح التي تنكر الجزاء في الآخرة.
3- يتحدث مدربو الطاقة والجذب عن الروحانية والاستنارة الروحية، ولديهم تمارينهم الخاصة لتعزيز الروحانية، فماذا يقصدون بها؟ هل هي كما نفهمها بمعنى الإيمان والصلة بالله والخضوع له؟ لا.. إنها حالة من تغيير الوعي عبر ممارسات وطقوس معينة للوصول إلى نشوة روحية لا علاقة لها بالله الخالق الملك، الروحانية التي يروّج لها هؤلاء هي مشاعر مجردة لا يترتب عليها تكاليف ولا عبادة ولا طاعة، وكأنما يراد أن تكون بديلاً عن الدين وحلاوة الإيمان، والفرق بين الروحانية (spirituality) والدين (religion) كبير.
وتدعو حركة العصر الجديد -التي نشأت في أمريكا وكانت هي المصدر لكل المفاهيم والأفكار التي تروجها دورات الطاقة- إلى ممارسات روحانية كالتأمل واليوغا والإسقاط النجمي، ومن ثمّ إزاحة الدين بالتدريج عن حياة المنتسبين لها.
4- في دورات التنمية البشرية تضخيم للعقل الباطن، وتعظيم من شأنه، وادعاء قدرات خارقة له، ومن المهم تحرير مصطلح العقل الباطن، والتفريق بين المفهوم النفسي له عند علماء النفس، والمفهوم الفلسفي الذي تروج له دورات التنمية البشرية، فمفهوم العقل الباطن في علم النفس يشير إلى مجموعة من العناصر التي تتألف منها الشخصية، بعضها قد يعيه الفرد كجزء من تكوينه، والبعض الآخر يبقى بمنأى عن الوعي؛ ولذلك يسمى أيضاً اللاواعي، وهو مخزن الخبرات المكتسبة سواء الإيجابية أو السلبية.
أما المفهوم الفلسفي له في هذه الدورات، فهو باختصار إله صغير في داخلك: يخلق الواقع، ويجذب الرزق، ويصنع القدر، ويشفي ويُسعد ويهدي ويُرشد ويعلم كل شيء، ولديه جميع الإجابات وكل الحلول!
والحقيقة أن ما عندي من الملاحظات حول هذه الدورات يطول جداً، وهو حصيلة بحث وقراءة ومتابعة وتواصل شخصي مع متضررين من هذه الدورات، واتصالات من أمهات وأقارب لشباب وفتيات ساءت أحوالهم الإيمانية والدينية والأسرية بعد انغماسهم في هذه الدورات والأفكار.
كل ما أتمناه ودائماً أوصي به من يطلبون المشورة أن يكونوا واعين، ويتفحصوا جيداً عناوين ومضامين الدورات التي يرغبون في الالتحاق بها، ويتأكدوا من أهلية المدرب، وصحة منطلقاته الفكرية، ويحذروا من بائعي أوهام السعادة والثراء والحظ.
_______________________
(*) داعية كويتية وباحثة في علوم الطاقة