إذا كانت الشائعة بوجه عام تثير القلاقل والفتن، فإن الشائعة في نطاق الأسرة تحطم البنية العميقة للمجتمع، وهي البنية التي تصمد طويلاً في مواجهة كل صنوف المتغيرات السلبية التي تعصف بالمجتمعات.
والشائعة الاجتماعية التي تضرب الأسرة غالباً ما تكون من الداخل الأسري، والنطاق القريب منه؛ أي أنها غالباً ما تكون طعنات من أشخاص قريبة، والدوافع التي تقف وراء هذه النوعية من الشائعات غالباً ما يكون لها بُعد نفسي عميق من الغيرة والحسد، وربما بدافع الانتقام.
على الرغم من أنه في كثير من الأحيان لا نستطيع تحديد المصدر الأساسي للشائعة، فإنها غالباً ما تنتقل عن طريق أشخاص آخرين لا يمتلكون دافعاً انتقامياً بقدر ما يميلون لحب الثرثرة والغيبة وحكاية الأخبار المثيرة ذات الحبكات الدرامية؛ فيضيفون على الشائعة تفاصيل وأبعاداً أخرى تطارد ضحية الشائعة.
ولعل أبرز مثال لتلك الشائعات التي تضرب الأسرة شائعة قذف المحصنات؛ فهي من أبرز صور الشائعات التي تلاقي كثيراً من التفاعل والتجاوب، خاصة في تلك المجتمعات الضيقة التي يتعارف ويتقارب أفرادها بشكل كبير، وتكون المرجعية العليا فيها للتقاليد والعادات، دون أثر حقيقي للدين وتعاليمه وأوامره ونواهيه التي تضع خطوطاً حمراء كثيرة على كل كلمة ينطقها الإنسان، خاصة تلك الكلمات المتعلقة بالخوض في الأعراض؛ (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (النور: 15).
ومن أهم الشرائح التي قد تتعرض لتلك الشائعات المطلقات والأرامل وزوجات المغتربين.
جراح لا تندمل
ومُطلِق الشائعة لا يفكر في كم الأذى الذي تتعرض له تلك المحصنة وهو يخوض في عرضها بهذه الطريقة المقززة، ولعل ما حكته السيدة عائشة عن هذه الأيام العصيبة، وما عانته من جراء تلك الشائعة الكاذبة التي طالتها في «حادثة الإفك»، ما يوضح عمق الجرح النفسي للمرأة موضع الاتهام.
يكفي في ذلك الشك الذي يحيطها من أقرب الناس إليها؛ حيث يختفي اللطف، ويحل الجفاء، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: «وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول: «كيف تيكم؟»، ثم ينصرف، فذاك الذي يريبني»؛ ذلك الشك الذي جعله صلى الله عليه وسلم يفكر في فراقها، رغم أنها أحب إنسان إليه على الإطلاق.
أما عن مشاعر القهر النفسي الذي يصل إلى الصدمة والحزن العميق الذي يحطم الإنسان ويمنعه من النوم، فهو ما تحكيه في موضع آخر من الحديث: «فمكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، قالت: فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويوماً لا أكتحل بنوم، ولا يرقأ لي دمع، يظنان أن البكاء فالق كبدي».
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان خلقه القرآن؛ لذا فقد تحلى بأعلى درجات الحلم، وهو يسأل ويبحث، وقد لبث الوحي شهراً لا يوحى له بشأن أم المؤمنين، حتى انتهى به الأمر إلى مواجهة وسؤال مباشر لها: «يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله، وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه».
ولنا أن نقارن بين هذا الخلق، وما يقع فيه كثير من الرجال؛ حيث يكون الطلاق أقرب إليه من حبل الوريد، ويرى في ذلك قمة الرجولة والحفاظ على العرض والشرف؛ فتتحطم المسكينة البريئة تماماً على صخرة هذه الشائعات العفنة.
لقد تألمت السيدة عائشة من هذا السؤال وبشدة، حتى إنها بعد أن أنزل الله براءتها قالت لها أمها: «قُومي إليه» (أي الرسول صلى الله عليه وسلم)، فأجابتها أم المؤمنين: «والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عز وجل» (رواه البخاري).
فما بال تلك التي يطلقها زوجها، ويهينها أبواها، وتسمع بأذنيها خوض الناس في عرضها وسخريتهم منها؟ كيف تعيش؟ ما الذنب البشع الذي ارتكبته حتى يتم الانتقام منها على هذا النحو الذي يحطم روحها؟
بعض مُطلِقي الشائعات المتعلقة بقذف المحصنات لا يتكلمون بشكل صريح، إنما يكتفون بإشارات وتلميحات خفية وهمز ولمز وسخرية، وبعض مَنْ يزعمون التدين يقولون: هذه امرأة..! ويصمتون هنيهة ويقولون: أستغفر الله؛ فكأنهم يرسلون للمستمع رسالة مزدوجة؛ الأولى: هي اتهام هذه المرأة، والثانية: أنهم متدينون لا يخوضون في الأعراض؛ فهذا يعطيهم مصداقية أكبر في نشر الشائعة.
شائعات خفية
على أن هناك شائعات اجتماعية خفية تسبب ضرراً لا يقل عن تلك الشائعات الفجة التي تلامس الأعراض وتقذف المحصنات، وقد تتحول إلى قضية رأي، ومن ذلك وصم شخصية ما في المحيط القريب منها، وبصورة غير مقصودة، ولا تحمل سوء نية بصفات خلقية سيئة، أو السخرية من هيئته وشكله، والترويج لذلك على شكل شائعة تحيط بالشخص سواء كان رجلاً أم امرأة أم ربما طفلاً؛ فيحدث حالة من الإيحاء على أثر هذه الشائعة حتى يصدقها مَنْ حوله؛ بل الكارثة قد تصل إلى أن يصدق الشخص المستهدف الشائعة ويستبطنها ويتحرك في حياته وفقاً لمعطياتها، وهنا تتحول الشائعة إلى حقيقة واقعة، مع ما يترتب على ذلك من تدمير لحياة هذا الشخص؛ الشخصية ومن ثم الأسرية.
فعلى سبيل المثال؛ طفل حريص في النفقات، ويدخر مصروفه، وتأتي مناسبة ما فيقدّم لأمه هدية بسيطة من الناحية المادية؛ فتطلق الأم عليه وبحسن نية منها صفة «بخيل»، وقد تقولها على سبيل الطرفة، ثم تعيد الموقف مرات أمام أقاربه وتصفه بفلان البخيل، وهي لا تدري أنها شائعة ستلتصق به طويلاً، وقد يتقبلها الطفل ببساطة، ويتعامل على أساس أنها سمة شخصية فطرية فيه حتى يتحول لبخيل فعلاً، وكم من فتاة فقدت ثقتها في نفسها وشكلها، وتشوهت صورة الجسد لديها تحت وطأة شائعات محدودة، تم الترويج لها داخل نطاق الأسرة التي كان يفترض بها أن تكون الحاضنة الأولى لزرع الثقة في نفسها، فإذا بها تتحول لأول معول هدم في بناء شخصيتها.
ومن هذه الشائعات الخفية الهدامة الترويج لصورة معينة مثالية للأسرة وإشاعتها، سواء على هيئة تصور نظري أو مبالغات يتم سردها عن الذات أو بعض المقربين؛ فالأم التي تحكي لابنها عن جهودها وتفانيها وتضحياتها من أجل زوجها وأسرتها، وترسم له صورة ذهنية لحياة أسرية مثالية تكاد تخلو من المشكلات، إنما تنقل له شائعة خفية وغير حقيقية بالطبع، والأم التي تنقل لابنتها طموحات مادية عالية باعتبارها الدليل الأكبر على حب زوجها لها، وتضرب لها الأمثلة من الصديقات والقريبات؛ إنما تنقل لها شائعة سامة عن الحياة الزوجية.
وفي الوقت الراهن، تظهر آثار وسائل التواصل الاجتماعي؛ حيث يتم توثيق اللحظات السعيدة فقط؛ وهو ما يعطي دوراً أكبر في تعزيز هذا النمط من الشائعات الخفية؛ فصور العائلات السعيدة.. الوجوه المبتسمة.. الأيدي المتشابكة.. الأجواء الدافئة.. مائدة الطعام العامرة.. الكلمات الناعمة التي يتم تبادلها.. حتى الأبناء الذين تظهر أخبارهم هم من المتفوقين فقط! ومن ثم يقع الزوج أو الزوجة أو حتى الأبناء في شرك المقارنة التي تؤدي للمشاحنة والمشكلات، وقد تصل إلى حد الانهيار الأسري.
بعض المنتديات النسائية تروج للشائعات الخفية بصورة عكسية؛ فجميع الرجال خائنون! وجميع الحموات بالغات الدهاء والمكر والشر! والمرأة الغبية فقط من تضحي من أجل زوجها! وجميع الزوجات ضحايا وبائسات! وهكذا تتحول بعض الحالات الفردية الحقيقية إلى قصص على هذه المنتديات، وتتحول القصص الفردية لحقائق ثابتة عامة يتم ترويجها كشائعة مجتمعية مرتبطة بفكرة الأسرة، والعلاقة بين الرجل والمرأة، وهي في خطرها ونتائجها تتجاوز الشائعة التي تقع في حق فرد معين.