في القرن الماضي، مثَّل «الغزو الثقافي» التحدي الأكبر للأمة الإسلامية، بعد الاستعمار العسكري، الذي تبنى هذا الغزو الجديد ومكَّن له في أوطاننا الإسلامية، وكان له أثره الواضح في تفكيك كثير من عناصر الثقافة الإسلامية في العقل المسلم، أما في نصف القرن الأخير، ومع ظهور حركة «العولمة» كحركة بديلة تجمع أهداب وأهداف الغزو الثقافي والهيمنة الثقافية على العالم الإسلامي وغيره من دول العالم الثالث؛ ففي ضوء الثورة الاتصالية المهيمنة التي أرغمت العقل المعاصر على الانصياع لها رغباً وقسراً، مثلت «المعلومات» الموجهة اللاعب الرئيس في حركة «الهيمنة» الجديدة.
وتهدف هذه «المعلومات» إلى التحكم في اتجاهات الرأي العام، بل توجيهه حيث تريد القوى المهيمنة على وسائط الاتصال العالمية، بصرف النظر عن الحق أو الصدق الذي تحمله هذه المعلومات، ومن ثم مثلت حركة «المعلومات» أهم الأدوات المعاصرة للحروب الدولية، بالإضافة إلى توجيه الوعي وتغيير الأفكار.
إن استخدام المعلومات من قِبَل القوى المهيمنة ليس أمراً جديداً، وقد سجله القرآن الكريم في مواقف عديدة، مستخدماً ألفاظه الدالة على ممارسات تناقض الحقيقة، وتعكس محاولات بث أفكار ومعلومات كاذبة، والعمل على إشاعتها في الوسط المسلم؛ بهدف النيل من وحدته وتماسكه، أو من العناصر الحيوية في عملية بنائه، فاستخدم القرآن ألفاظ «زعم» ومشتقاتها: زعموا، يزعمون، بزعمهم، تزعمون، زعمتم، والزعم هو الادعاء أو القول بغير دليل، واصطلاحاً: هو الخبر الذي يغلب عليه الكذب.
كما استخدم القرآن لفظة «الشائعة» في موضع ذمّ وتوعد المروجين لها بالعذاب الشديد، يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النور: 19)، ومن المعروف أن هذه الآية نزلت في حادثة الإفك، إلا أن حكمها يظل عاماً، فالعبرة –كما في الدرس القرآني- بعموم اللفظ وليست بخصوص السبب.
القرآن.. والفحص المعرفي:
واجه القرآن ما يمكن تسميته بحرب «المعلومات» التي تضمنت خلق الأكاذيب عن الجماعة المسلمة، ومحاولة الترويج لهذه المعلومات الكاذبة داخل المجتمع المسلم، وفي ضوء ذلك طرح القرآن منهجاً معرفياً يدفع الجماعة المسلمة ويحفزها إلى اختبار المعلومات القادمة وبيان الصدق فيها والكذب، من أجل الوصول إلى الحقيقة التي يقوم عليها بناء المجتمع، فالقرآن يؤكد دائماً أن المجتمع المسلم تقوم أعمدته وركائزه على الحقيقة واليقين، في مقابل الكذب والظن.
وتقوم منهجية الفحص المعرفي التي قدمها القرآن على جانبين:
الأول: يتعلق بالقواعد العامة والأساسية للتفكير الراشد، التي تمكن العقل من إصدار الأحكام السليمة.
والثاني: يتمثل في الأدلة الضرورية التي يجب أن يستند إليها قبول الأخبار والمعلومات الواردة للتمييز فيها بين الشائعات والكذب، والحقيقة والزعم، واليقين والوهم.
القواعد القرآنية العقلية العامة:
كما ذكرنا، فإن هذه القواعد بمثابة القوانين الأساسية للتفكير الراشد التي يجب أن يبني عليها العقل المسلم طريقة تعامله في النظر إلى المعلومات والأفكار التي يتلقاها، وأهم هذه القواعد هي:
1- التثبت: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (الإسراء: 36).
2- تجنب الشك بغير دليل: (إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (يونس: 36)، (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ) (الحجرات: 12).
3- الموضوعية ورفض التحيز: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) (ص: 26).
4- الخبرة والتخصص: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ) (النحل: 43)، (بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ) (يونس: 39).
5- التواضع العلمي: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) (الإسراء: 85)، (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ) (النجم: 32).
6- تأسيس العقل والوجدان على الحق واليقين في مقابل الشك والارتياب: (أَفِي اللّهِ شَكٌّ) (إبراهيم: 10)، (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) (الإسراء: 49)، واليقين هو معيار البناء (لأي بناء) إيماني، معرفي، اجتماعي، أما الشك فهو معيار الهدم (لأي بناء) إيماني، معرفي، اجتماعي.
7- رفض كل ما يتنافى مع العقل مثل: قبول التناقضات وجمع الأضداد في آن واحد؛ استناداً إلى القاعدة القرآنية: «لَا يَسْتَوِي»، ودعا إلى البحث عن الحق والحقيقة، والدلائل والبراهين: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) (النمل: 64).
8- إحياء فضاء وفضيلة «وَيَسْأَلُونَكَ»، وقد وردت في القرآن ثلاث عشرة مرة، ووجهت للنبي صلى الله عليه وسلم لبيان طبيعة الرسالة وطبيعته.
9- التعقل: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (البقرة: 73).
10- التبيُّن: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ) (النساء: 94)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) (الحجرات: 6).
نخلص إلى أن هذه القواعد العقلية تمد الإنسان بمعايير النظر الصائب، والحكم المستقيم على الأشياء، وتقدير القضايا والأمور والآراء، وتوافر سبل منهجية التفكير الراشد، ومجال هذه القيم هو ما يميز الإنسان عن باقي المخلوقات وهو «التفكير»، أما موضعها فهو الكون والنفس والتاريخ والخلق، وأهم مفرداتها النظر، والاعتبار، والتثبت، والتأمل، والبرهان، واليقين، والتخصصية.
منهجية اختبار الأخبار والمعلومات:
أورد النص القرآني منهجاً قويماً للتَبَيُّن ولتحصيل العلم، يتألف من طلب ثلاثة أدلة؛ اثنان منها في حادثة الإفك بسورة «النور»، والآخر في سورة «الأنبياء».
1- الدليل الباطني – الوجداني:
ويتضح هذا الدليل في قوله تعالى: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً) (النور: 12)، طلب الله تعالى من المؤمنين أن يستبطنوا أنفسهم، ويعودوا إلى وجدانهم؛ فذلك أحد السبل التي توقف سيل هذا الإفك وربما تقضي عليه، ولم تذكر الروايات أن أحداً فعل ذلك من الصحابة سوى أبي أيوب الأنصاري وامرأته، وذلك أنه دخل عليها فقالت له: يا أبا أيوب، أسمعت ما قيل؟ قال: نعم! وذلك الكذب! أكنت أنت يا أم أيوب تفعلين ذلك؟! قالت: لا والله! قال: فعائشة والله أفضل منك؛ قالت أم أيوب: نعم، وفي رواية أخرى قالت أم أيوب: لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرم رسول الله سوءاً؟ قال: لا، قالت: ولو كنت بدل عائشة ما خنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعائشة خير مني، وصفوان خير منك.
2- الدليل الخارجي – المادي:
(لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (النور: 13)، وإذا كان هناك اعتبار للدليل الباطني، إلا أنه لا يزال بحاجة إلى وقائع وشواهد تصدقه أو تكذبه، لذلك أرسى القرآن الكريم قواعد هذا البرهان الحسي، مؤكداً أهمية الحواس ومسؤولية الإنسان عنها؛ (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء: 36)، ونعى على أولئك الذين يعطلون هذه الحواس فلا يرون ولا يسمعون؛ (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا) (الأعراف: 179).
ولذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم في واقعة بني المصطلق، أرسل خالد بن الوليد ليتثبت من قول ابن أبي معيط، وطلب منه أن يتثبت ولا يعجل، وهذا طلب للدليل الحسي والواقعي، فرآهم خالد بن الوليد متمسكين بالإسلام، وسمع منهم الأذان والصلاة.
لذلك، فإن من أبرز أدلة التبيُّن السمع والرؤية؛ أي استخدام الحواس، وهي من أهم أدوات «المنهج التجريبي» الذي يقوم على المشاهدة والملاحظة العلمية، وتعتبر نتائجه من أكثر نتائج البحوث والعلم اقتراباً للحقيقة.
3- دليل التخصصية:
(فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ)، إن الله تعالى نفى عن الذين خاضوا في الكذب والشائعات العلم بما يقولون، وقال لهم: (مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (الإسراء: 36)؛ لهذا أرسى القرآن مبدأ آخر هو «السؤال» إذا نزلت بالمسلم واقعة لا يعلم حقيقتها، و»السؤال» هنا لأهل العلم وأهل الذكر، وهذا إرساء لمبدأ التخصصية بما يجعل قيام العمران على اليقين والحقيقة، وليس على الشك والارتياب.
وقد فعل ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان يحدد المهام والوظائف في الحروب والسلم لمن هم أهل لها؛ فهذا قائد للجيش، وهذا داعٍ يدعو الكفار إلى الإسلام، وهذا في جهاز المخابرات على الأعداء بما يحقق توظيف الإمكانيات، والحصول على حقائق وبيانات، وإقامة التخطيط الإسلامي على بيان وتبيّن، ولهذا قامت الدولة الإسلامية الأولى متكاملة الأركان على الحقائق والبيان.
إن الفكرة المركزية لمنهجية الفحص المعرفي التي يدفع إليها القرآن باعتبارها منهجاً قويماً في فحص الأخبار، تقوم على مبدئية التبيّن أو باللفظة القرآنية «فَتَبَيَّنُوا» التي قُرئت أيضاً «فَتَثَبَتوا»، التي تحمل دلالات الفحص والبحث والتأمل في الأمر للوصول فيه إلى الحقيقة، وهو ما عُبّر عنه لغوياً بألفاظ مثل: الإيضاح، والظهور، والدلالة، والحجة، وحقيقة الأمر تتطلب الحجة والدلالة؛ أي أنه لا يكفي أن يقرر الشخص حقيقة الأمر دون أن يصحب ذلك حجة ودليل واضح، وهذا أدعى إلى أن يتأمل، ويجري البحث بالعقل والحواس للوصول إلى الحجة والدلالة المبينة.
___________________________
(*) أستاذ أصول التربية بجامعة دمياط – مصر