“تقوم شركات الأدوية وإدارة مؤسسة الغذاء والدواء بمنع أو حجب علاجات السرطان”، أو “لا تتناول هذا المنتج، فهو يحتوي على دهن الخنزير”.. قد تكون الشائعات على غرار هذه الشائعة أو تلك، حيث تُرّوج معلومات غير صحيحة قد تترك آثارًا فادحة وجسيمة على المجتمعات والأفراد، ولم تعد تلك الشائعات مجرد أكاذيب يلقيها شخص هنا أو هناك، لكنها أصبح يقف خلفها مؤسسات ووسائل إعلامية متخصصة أحياناً في تحريف وتزييف الحقائق، وقد أثبتت دراسة استطلاعية متخصصة في السعودية أن 82% من أفراد المجتمع يتأثرون بهذه الشائعات(1).
الظاهرة وسياقها
يعرف الباحثون الشائعة بأنها: خبر أو مجموعة أخبار زائفة تنتشر في المجتمع بشكل سريع، وعادة ما تفتقر لذكر مصدر موثوق، ويغلب عليها طابع الإثارة والتشويق، وقد تكون ذات طابع سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو عسكري(2).
واليوم وفي عصر السرعة والإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي نتعرض يومياً لكمّ هائل من المعلومات والأخبار التي لا نفتقد صحة مصدرها ولا نكلف أنفسنا عناء ذلك، إن الزخم الهائل الذي عرفته التكنولوجيات المعلوماتية عموماً، والانتشار المتزايد لتكنولوجيا الاتصال والمعلومات في الآونة الأخيرة بشكل خاص، أدى إلى ظهور ثورة رقمية طالت جوانب متعددة، ومنها وسائل الإعلام، حيث أدت رقمنة الإعلام (تحولها للشكل الرقمي) إلى بروز ظاهرة “الإشاعة الإلكترونية”.
وتبرز أهمية تناول الشائعات بالدراسة والتحليل من مدى التأثير الكبير الذي تتركه على المجتمعات، فقد تؤدي إلى تفكك وتدهور المجتمع، كما قد تؤدي إلى تماسكه، هذا وتعد النظرية التكنولوجية لوسائل الإعلام التي أسسها مارشال ماكلوهان من النظريات الحديثة التي تفسر طبيعة دور وسائل الإعلام وتأثيره على المجتمعات، ويرى مارشال أن هناك صلة بين وجود الاتصال الحديث في المجتمع والتغيرات الاجتماعية التي تحدث في المجتمعات، حيث إنه من غير فهم الأسلوب الذي تعمل فيه بموجبه وسائل الإعلام لا نستطيع أن نفهم التغيرات الاجتماعية والثقافية التي تطرأ على المجتمعات.
هذا، وقد لوحظ مؤخراً انتشار الإشاعات وسرعة تداولها بين أفراد المجتمع، وخاصة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وبرامج المحادثة الفورية على الأجهزة الذكية وفي مقدمتها “فيسبوك”، و”تويتر”، و”واتساب”، نظراً لما تمتلكه من أدوات تفاعلية وانتشار وسرعة وقدرة فائقة على التشهير السريع، وإثارة البلبلة والتأثير في الرأي العام.
وتختلف الإشاعة في طبيعتها وهدفها والفئة المستهدفة منها، فبعض الإشاعات تكون ذات صبغة سياسية لتقويض الأمن والاستقرار، وبعضها اقتصادية للتحذير من منتج معين، أو تكون إشاعة أخلاقية تستهدف شخصيات عامة بهدف التشويه والتشهير غالباً، أو صحية تؤدي لبث الخوف أو التعامل غير الآمن لبعض الأدوية، أو إشاعات ذات طبيعة دينية من خلال الترويج لفتاوى مكذوبة على أصحابها أو بالاستناد إلى أحاديث مكذوبة أو ضعيفة جداً.
وتتميز الشائعات المتداولة عبر وسائل التواصل الإلكتروني بعدد من السمات، منها:
سرعة الانتشار: خصوصاً في ظل توافر الهواتف الذكية وتعدد منصات التواصل الاجتماعي، فالأمر لا يحتاج سوى ثوانٍ ودقائق معدودة لتجوب الشائعة الآفاق.
تزايد أعداد المتلقين: حيث إن المتلقي بمجرد ضغطة زر يصبح مرسلاً لهذه الشائعات إلى “مجموعات الواتساب مثلاً”، التي تحتوي على عشرات الأعضاء الذين يقومون بدورهم كذلك في تحويل الرسائل لمتلقين آخرين، وهكذا.
ثبات المحتوى نسبياً: بالمقارنة بالشائعات التقليدية التي تتداولها ألسنة الناس في مجالسهم الخاصة، التي يعتريها التغيير والتبديل، فإن الشائعات الإلكترونية لها منحنى آخر؛ فالمتلقي الذي يتحول إلى مرسل لا يقوم سوى بدور واحد هو النسخ واللصق أو إعادة التوجيه من غير تغيير على المحتوى.
دراسات منهجية حول الشائعات الإلكترونية
ونظراً لأهمية الموضوع وما يتركه من آثار كبيرة، حظي موضوع استخدام التكنولوجيا الحديثة في نشر الشائعات إلى العديد من الدراسات المنهجية على شكل أبحاث منشورة في مجلات علمية، أو من خلال تناولها في رسائل الماجستير والدكتوراه في الجامعات، ومن أبرز الدراسات دراسة بعنوان “الشائعات في وسائل التواصل الاجتماعي وعلاقتها بالأمن الفكري لدى طلبة الجامعة”(3)، حيث خلصت الدراسة إلى وجود علاقة عكسية سلبية بين الإشاعة في وسائل التواصل الاجتماعي وكل من أبعاد الأمن الفكري (المواطنة، الديني، الفكري، الأمني، التراثي، الأخلاقي، الإعلامي).
في ذات السياق، جاءت دراسة أخذت طابع دراسة استطلاعية لآراء الجمهور بعنوان “الإشاعة وتأثيرها على المجتمع”(4)، التي كان من أبرز نتائجها: تحول الشائعات إلى ظاهرة، وازديادها مع زيادة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي (واتساب، تويتر، فيسبوك، يوتيوب)، ازدياد الشائعات في المجتمعات التي تقل فيها الشفافية والمعلومات الموثقة، أكثر أنواع الشائعات انتشاراً هي الاقتصادية أولاً، ثم السياسية ثانياً، ثم الدينية ثالثاً، بالإضافة إلى أن قلة وعي المجتمع تزيد من فرص انتشار الشائعات.
وفي السياق نفسه، كشفت دراسة أمريكية تحمل عنوان “أكاذيب كريهة ومحتوى ينتشر بسرعة”(5) قام بها باحث من معهد “تاو سنتر للصحافة الرقمية” في جامعة كولومبيا أن عدداً كبيراً من وسائل الإعلام الإلكترونية تفتقد إلى الدقة وتساهم في نشر شائعات، مؤكدة أنه ليس كل ما ينشر على الشبكة يتمتع بالصدقية.
وقالت الدراسة: إنه بدلاً من تأدية دور مصدر معلومات دقيقة، يساهم عدد كبير من وسائل الإعلام الإلكترونية في التضليل لتحصد مزيداً من الزيارات لموقعها ومن الاهتمام، وتابعت الدراسة نفسها أن عدداً كبيراً من المواقع لا يتحقق من صحة المعلومات التي يقوم بنشرها.
حسابات وهمية وذباب إلكتروني
يطلق مصطلح “الذباب الإلكتروني” على الحسابات الوهمية على مواقع التواصل الاجتماعي، وما يميز هذه الحسابات أنها تدار بشكل آلي من قبل مبرمجين مرتبطين بأجهزة أمنية غالباً عبر ما يسمى “روبوت الويب” أو (BOTS) الذي يقوم بمهام متكررة وتلقائية عبر برمجته بشكل يسمح له بإعادة التغريد التلقائي أو التعليق على تغريدات معينة، والهدف الرئيس لهذه الحسابات هو بث الشائعات والمعلومات المغلوطة في محاولة لصناعة رأي عام من خلال إعادة نشرها، فيظن المستخدمون بأنها تشكل رأياً عاماً(6)، وكان واضحاً استخدام هذه الحسابات الوهمية في الخلافات السياسية بين الدول.
هذا، وتقوم منصات التواصل الاجتماعي بحذف الحسابات الوهمية بشكل دوري، حيث قام “فيسبوك” بحذف ما يزيد على 100 مليون حساب وهمي خلال السنوات السابقة، وحذفت “تويتر” ما يزيد على 20 مليون حساب.
مبادرات لرصد ومحاربة الشائعات الإلكترونية
إذا كانت التكنولوجيا عاملاً فاعلاً في هذا الانتشار الكبير للشائعات والأكاذيب عبر فضاء الإنترنت، فإنها أيضًا وفرت الحلول لمكافحة تلك الأكاذيب ومحاصرتها، وذلك عبر أدوات جديدة استحدثتها شركات التكنولوجيا ومعامل الأبحاث(7).
هنالك مبادرات وجهود بعضها حكومي وبعضها مبادرات مجتمعية أو فردية للحد من الشائعات وملاحقاتها وتوعية الناس بخطورتها، ومن أبرزها:
تقنيات الذكاء الاصطناعي: قامت شركة “جوجل” خلال عام 2016 بتمويل 20 مشروعًا أوروبيًّا يعمل على التحقق من المعلومات باستخدام خوارزميات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي.
التعقب الرقمي: وهي الحلول التي تعمل على تتبع الشائعة وانتشارها، وتعقب مصدرها، والتحقق من عناصرها بشكل فوري ومنظم، ومن أبرز أمثلتها موقع “Emergent”، وهو جزء من مشروع بحثي تابع لمركز “تو للصحافة الرقمية” بجامعة كولومبيا.
المبادرات المتخصصة: وهي المشروعات التي يتم إطلاقها بغرض مكافحة الشائعات في فترة أو نطاق محدد، مثل: مرصد مصداقية الإعلام الأردني (أكيد)، وطور “أكيد” منهجية لرصد الشائعات حيث تعرف الشائعة حسب هذا التقرير بأنها “المعلومات غير الصحيحة، المرتبطة بشأن عام أردني، أو بمصالح أردنية، التي وصلت إلى أكثر من 5 آلاف شخص تقريباً، عبر وسائل الإعلام الرقمي”.
مبادرات فردية: وهي التي يتم إطلاقها من قبل أفراد هدفهم دحض الشائعات أو التقليل منها ورفع وعي المجتمع لخطر نشر الأكاذيب والشائعات، مثل مبادرة “لا للإشاعات” و”هيئة مكافحة الشائعات” في السعودية، وتقوم هذه المبادرات على استخدام أدوات تقنية للتحقق من مدى صحة النصوص والصور والفيديوهات المتداولة في وسائل التواصل الاجتماعي من خلال بعض التطبيقات مثل موقع “tineye”.
آليات مواجهة الشائعات الإلكترونية
هذا، ولا بد من الإشارة إلى ضرورة زيادة وعي الجمهور وبنائه ثقافياً، فالوعي هو العنصر الفاعل في مواجهة الشائعات، وهو الذي يجعل الجمهور قادراً على التمييز والانتقاء من بين ما يعرض عليه، وكما لا يخفى فإن من أهم آليات مواجهة الشائعات إتاحة المعلومة الصحيحة؛ لأن غياب المعلومة يهيئ البيئة الخصبة لانتشار الشائعات بشكل كبير، كما أشارت عدة دراسات استطلاعية، كما لا بد من توحيد الجهود وإيجاد مظلة لجميع الحسابات والصفحات التي تعنى بكشف لشائعات الإلكترونية ومحاربتها، بالإضافة إلى وضع عقوبات واضحة لكافة أشكال التعاطي الإلكتروني معها، ودعوة المؤسسات العاملة في حقل الإعلام إلى تأهيل كوادرها وتدريبهم على التحقق من الأخبار والمصادر الإلكترونية.
_______________
المصادر والمراجع
(1) وحدة استطلاعات الرأي العام، مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، السعودية.
(2) حسنين شفيق، نظريات الإعلام وتطبيقاتها في دراسات الإعلام الجديد ومواقع التواصل الاجتماعي.
(3) رعد الخليوي، الشائعات في وسائل التواصل الاجتماعي وعلاقتها بالأمن الفكري لدى طلبة الجامعة.
(4) طلال الناشري، الإشاعة وتأثيرها على المجتمع.
(5)Craig Silverman Lies, Damn Lies, and Viral Content
(6) محمد النجار، “الذباب الإلكتروني” ووزيره.. هكذا أشعلا الأزمة الخليجية.
(7) د. فاطمة عبد الفتاح، آليات مكافحة الشائعات في الفضاء السيبراني.
(*) أكاديمي وباحث في تكنولوجيا المعلومات، كلية صور الجامعية، سلطنة عُمان.