لم يرقَ “إعلان أو تصريح أو وعد بلفور” إلى مستوى المعاهدة أو الاتفاقية، وعلى الرغم من ذلك يُعدّ أحد أكثر الوثائق السياسية تأثيراً في القرن العشرين، بعد إدراجه من عصبة الأمم ضمن صك الانتداب البريطاني على فلسطين، ليصبح بعد ذلك المبدأ التوجيهي للحكم البريطاني حتى تأسيس الكيان الصهيوني بعد ثلاثين سنة؛ ليتحول إلى واحدة من أكبر عمليات السطو في التاريخ، حيث أعطى من لا يملك لمن لا يستحق.
وعد بلفور، الذي التزمت فيه بريطانيا في 2 نوفمبر 1917م، بتأييد “إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين”، غيّر وجه المنطقة العربية وتاريخها، وساهم في تأسيس كيان غاصب فوق وطن عاش فيه سكانه الأصليون لآلاف السنين، ليطردهم منه، ويُحلّ محلهم جماعات لا يربط بينهم إلا الوهم؛ يبرر لهم الجرائم والمجازر والتطهير العرقي، مدعين أن “الرب” منحهم هذه الأرض، فيتقبل العالم هذه الرواية، ولكل وجهة هو موليها ليحقق أهدافه من ورائها.
لم يكن “وعد بلفور” الأول من نوعه في مستوى التفكير الغربي، وكرس “بامتياز” لعبة التقاء المصالح بين الدول الغربية سواء لفكرة إنشاء “دولة الحاجز”، أو للتخلص من اليهود، أو لاستغلال النفوذ اليهود العالمي، وكرس هدف الحركة الصهيونية بـ”إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين”.
وكان الملك الفرنسي لويس التاسع، قائد الحملة الصليبية في القرن الثالث عشر، أول من طرح فكرة قيام دولة غريبة في المنطقة العربية لتفكيك وحدتهم. وأول من فكر عملياً في إنشاء دولة يهودية في فلسطين كان نابليون بونابرت، طمعاً في مساعدتهم له في حملته لغزو الشرق.
وفي السياق نفسه، أوصى تقرير “مؤتمر كامبل بانرمان”، الذي عُقد في سنة 1905م بدعوة من رئيس الوزراء البريطاني كامبل بانرمان، واستمرت جلساته حتى سنة 1907م، بإنشاء “حاجز بشري قويّ وغريب، يفصل الجزء الآسيوي عن الجزء الأفريقي في المنطقة العربية، عدو لسكان المنطقة، وحليف للغرب”. وعلى أساس ذلك، كانت “اتفاقية سايكس – بيكو 1916م”، و”تصريح جول كامبو 1917م” الفرنسي، و”وعد بلفور 1917م” البريطاني، و”مؤتمر فرساي 1919م”، و”مؤتمر سان ريمو 1920م”.
تمّ إعداد “وعد بلفور” وصياغته خلال الحرب العالمية الأولى، ووافقت بريطانيا على الخطط الصهيونية والتفت على “اتفاقية سايكس – بيكو” للاستيلاء على تركة الخلافة العثمانية، لخدمة مصالحها السياسية، ولحشد دعم كثير من اليهود المتنفذين. وجعل وزير الخارجية البريطاني آرثر جيمس بلفور بريطانيا الواجهة الشرعية التي ترتكز عليها الحركة الصهيونية.
وكان مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هرتزل قد كتب في يومياته في 3 سبتمبر 1897م: “قمتُ بتأسيس الدولة اليهودية في (مؤتمر بازل) الذي عُقد خلال الفترة 29 ـ 30 أغسطس 1897م، ولو أنني قلت هذا بصوت عال اليوم، فسوف أواجَه بعاصفة من الضحك في جميع أرجاء المعمورة. ربما بعد خمس سنوات، وفي جميع الأحوال بعد خمسين سنة، سوف يدُرك الجميع ذلك”.
وقد روّج هرتزل لفكرته قبل مؤتمر بازل في كُتيب أصدره في سنة 1896م، حمل عنواناً رئيسياً هو: “دولة اليهود”، وعنواناً فرعياً هو: “محاولة لإيجاد حلّ حديث للمسألة اليهودية”، رأى فيه أن حياة اليهود في أوروبا أصبحت لا تحتمل، وأن الحلّ الوحيد لا يمكن إلا أن يكون “قومياً”، لأن اليهود يشكّلون “شعباً”، عليه أن يقيم دولة خاصة به، مقترحاً موقعين جغرافيين لهذه الدولة هما: فلسطين أو الأرجنتين. ولدى حديثه عن فلسطين، لم يخفِ هرتزل طموحه إلى أن تكون الدولة اليهودية المنشودة جزءاً من المشروع الاستعماري الأوروبي في الشرق، إذ كتب: “وبالنسبة لأوروبا، فإننا سنشكّل هناك حاجزاً يفصلها عن آسيا وموقعاً أمامياً للحضارة ضدّ البربرية”.
وللمرة الأولى، منذ مؤتمر بازل في سنة 1897م، أحرزت الحركة الصهيونية، من خلال “وعد بلفور”، الدعم السياسي للهدف الذي وضعه المؤتمر، وهو إقامة “وطن للشعب اليهودي في فلسطين مكفولاً بشكل علني وقانوني”. فعلى الرغم من نشاط تيودور هرتزل الدولي المكثف للحصول على ذلك على شكل ميثاق من الدولة العثمانية، لم ينجح.
وبالنظر إلى تعريف لجنة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بفلسطين لمصطلح “الوطن القومي اليهودي”، نجد أنه أثار الكثير من النقاشات حوله، لا سيما أنه لا يملك دلالات قانونية معروفة، ولا توجد سوابق لتفسيره في القانون الدولي. فقد استُخدِم هذا المصطلح في “وعد بلفور” وفي “صك الانتداب”، وكلاهما وعد بإنشاء “وطن قومي لليهود”، دون تحديد معناه.
ووضع بيان “السياسة البريطانية في فلسطين” في 3 يونيو 1922م تفسيراً ضيقاً للمفهوم بناءً على “وعد بلفور”. استبعد البيان “إلغاء أو خضوع السكان أو اللغة أو العادات العربية في فلسطين”، أو “فرض الجنسية اليهودية على سكان فلسطين ككل”، وأوضح أن الهدف في نظر قوى الانتداب كان “إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين”، و”ليس تحويل فلسطين ككل إلى وطن قومي يهودي”. وقد كرست وثيقة إعلان قيام “دولة إسرائيل” في 14/5/1948، على أن “لكل يهودي الحقّ في القدوم إلى هذا البلد باعتباره الأحقّ”. وتوسّع هذا المفهوم في سنة 1970م ليشمل غير اليهود ذوي الأجداد اليهود وزوجاتهم.
وبعد وقت قصير من الاحتلال البريطاني لفلسطين تمّ تكريس دعائم الوطن القومي اليهودي على الأرض وفق “وعد بلفور”، الذي يتناقض بشكل مباشر مع الوعود البريطانية للعرب بالاستقلال بعد الحرب، وتمّ فرض حكومة عسكرية، وأصبح الصهيوني هربرت صموئيل، في يوليو 1920م، أوّل مندوب سامٍ في فلسطين، وفي أغسطس من العام نفسه استصدر قانون الهجرة الذي سمح لـ 16,500 يهودي بدخول فلسطين، ولكن بسبب ردّ الفعل العربي الرافض عدَلت بريطانيا عن سياستها قليلاً، وبدأت تتحرك في إطار مفهوم القوة الاستيعابية للبلد.
وبذلك تكون الحكومة البريطانية قد شرَّعت أبواب فلسطين أمام الهجرات اللاحقة. وساعد صموئيل، الذي لعب دوراً رئيسياً في إعداد “وعد بلفور”، النشاط الاستيطاني الصهيوني، وازداد عدد المستعمرات الصهيونية في عهده من 44 مستعمرة إلى 100، واعترف بالمؤسسات السياسية الصهيونية، وباللغة العبرية كلغة محلية.
وفي السياق نفسه، مهدت الحكومة البريطانية لتأسيس الكيان الصهيوني من خلال سياستها الاستعمارية على أرض فلسطين لنحو ثلاثين سنة، وحققت حلم مؤسس هرتزل بعد خمسين عاماً من مؤتمر بازل، بإعلانها الانسحاب من فلسطين بشكل مفاجئ، وبتنسيق كامل مع العصابات الصهيونية، ممهدة الطريق لإعلان إنشاء كيان غاصب في 15 مايو 1948م.