يشن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حربا سياسية وثقافية وإعلامية على ما يسميه بالانعزالية الإسلامية، والتي يعني بها الممارسات الدينية والثقافية لبعض مسلمي فرنسا، والتي يراها ماكرون تهدّد قيم الجمهورية الفرنسية، وتسعى إلى “إقامة نظام مواز” و”إنكار الجمهورية”، حسب تصريحات له أوائل شهر أكتوبر الماضي. كذلك وجّه ماكرون تصريحات وقحة تعكس جهلا فجا بالإسلام، الذي اتهمه بأنه “ديانة تعيش اليوم أزمة في كل مكان في العالم”.
والحقيقة أنه ثمة أزمة هناك؛ لكنها ليست في الإسلام كما يدّعي ماكرون، ومن يدافعون عنه شرقا وغربا، إنها في العلمانية الفرنسية وفي نموذجها اللائكي، الذي فشل فشلا ذريعا في استيعاب كافة شرائح المجتمع الفرنسي على مدار نصف القرن الماضي، وبدون الخوض في الخلفيات السياسية والاقتصادية التي تقف في خلفية تصريحات ماكرون الحمقاء، والتي لا تختلف كثيرا عن تصريحات من سبقوه خاصة مع اقترب الموسم الانتخابي، فإن النموذج اللائكي الفرنسي يعاني مشكلات عديدة منذ إقراره وقوننته عام ١٩٠٥ من خلال التشريع الذي صدر ذلك العام، وأصبح بمثابة المرجعية القانونية والقيمية للعلمانية في فرنسا.
هذا التشريع أصّل لعملية الفصل بين الدولة والكنيسة، ففي حين كان الهدف من ذلك القانون هو تحقيق التماسك والانسجام الاجتماعي بين مكونات الشعب الفرنسي، وخلق شعور متجانس بالهوية الفرنسية، وتحييد الدولة عن التدخل في المجال الديني؛ إلا أنه تحول على مدار العقود الماضية إلى طريقة وآلية لمراقبة وتقنين سلوك المواطنين والتحكم في منظوماتهم القيمية والأخلاقية بشكل قسري، وبشكل يتعارض مع مبادئ الحرية والليبرالية التي ترفع فرنسا شعارها أو هكذا تدّعي. وقد فشل هذا النموذج، كما هو واضح من تكرار حوادث العنف والتمرد الاجتماعي والثقافي، في استيعاب ودمج مكونات مهمة داخل المجتمع الفرنسي خاصة المكوّن الإسلامي. ولا يتعلق الأمر بالدمج الاقتصادي والاجتماعي، حيث يعاني كثير من المسلمين من التهميش والإهمال والفقر وسوء الأوضاع المعيشية عبر سياسات ممنهجة تم تكريسها على مدار عقود، فضلا عن التعامل معهم باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية، والتمييز الذي يحدث ضدهم في مجالات التعليم والعمل والترقي الوظيفي والاجتماعي.. إلخ، وإنما الدمج السياسي والثقافي الذي يقوم على الاعتراف بالتعددية الدينية والثقافية واحترامها. كذلك لا يمكن تجاهل نظرة الاحتقار والازدراء التي يتعامل بها السياسيون والمثقفون في فرنسا مع المسلمين، ولن ننسى حين وصفهم الرئيس الفرنسي الأسبق، نيكولا ساركوزي، يوما بالـ”حثالة”، وذلك حين انتفض شباب الأحياء في ضواحي باريس خاصة التي تقطنها جاليات مسلمة احتجاجا على أوضاعهم المعيشية.
يتحدث ماكرون عن “نظام مواز” للحياة الدينية والثقافية والتعليمية لدى شرائح من مسلمي فرنسا يرفضون الاندماج في النظام العام والالتزام بقيم “الجمهورية الفرنسية”، حسب زعمه. وإذا كان هذا الأمر صحيحا، فالذي يجب أن يُلام هنا ليس مسلمي فرنسا، ولكن تُلام الدولة الفرنسية التي فشلت بشكل كبير في دمج هؤلاء دمجا لينا وبناء ليس من خلال الإكراه والقسر، وإنما من خلال الاعتراف بالتعددية والتنوع. فمحاولة خلق “أمة فرنسية” متجانسة ليس سوى مجرد خيال أو حلم لن يتحقق، ليس بسبب رفض المسلمين أو غيرهم أن يكونوا جزءا من تلك الأمة المتخيلة، وإنما بسبب السياسات والإجراءات التي تتبعها الحكومات الفرنسية المتعاقبة، والتي لا تعترف بحقوق هؤلاء باعتبارهم مواطنين، ولا تحترم خلفياتهم الدينية والثقافية. ما تزال فرنسا تتعامل بعقلية “استعمارية” مع مسلميها ومواطنيها خاصة الجيل الذي جاء في الستينيات والسبعينيات كـ”عمال زائرين” (guest workers) كما كانوا يسمّون من أجل المساعدة في النهضة الاقتصادية لفرنسا؛ ولكنهم استقروا هناك ولم يعودوا لبلدانهم خاصة في شمال أفريقيا. وما تزال ترسم سياساتها تجاههم باعتبارهم “مهاجرين”، وليسوا مواطنين لديهم نفس الحقوق التي يتمتع بها “الفرنسي الأبيض”.
ويذكرنا تعاطي فرنسا مع مسلميها و”مهاجريها” بتعاطي أميركا مع السود الأميركيين أو الأميركيين من أصل أفريقي؛ أي أن مشكلة المسلمين في فرنسا أشبه بمشكلة السود بأميركا، الذين يعانون من التهميش البنيوي في مختلف مناحي المجتمع. فهم باستمرار موضع اشتباه وشك وعدم ثقة من الدولة ومؤسساتها، كذلك لا يختلف حديث ماكرون عن “الإسلام الراديكالي” عن حديث الرئيس الأميركي دونالد ترمب عن الموضوع نفسه، والذي لا يخلو من جهل وخلط بين قلة من المتطرفين وبقية المسلمين الذي يتجاوز عددهم مليار ونصف المليار نسمة. وهو خلط يبدو متعمدا أحيانا من أجل التخلص من تيارات الإسلام السياسي.
بكلمات أخرى: يبدو أن النموذج اللائكي الفرنسي قد وصل إلى طريق مسدود بعد حوالي قرن ونيف من إقراره، ولا شك في أنه يعيش اليوم أزمة حقيقية لا مخرج منها إلا من خلال إعادة النظر في بنية هذا النموذج ومرجعيته الأخلاقية، وذلك بشكل يساعد على دمج المهاجرين سواء مسلمين أو غيرهم من الأقليات، دمجا حقيقيا من خلال الاعتراف بحقهم في اختيار مرجعيتهم الدينية والأخلاقية، وإنهاء سياسات التهميش والتمييز بحقهم، والتعامل معهم باعتبارهم “مواطنين”، وليسوا مجرد عالة أو تهديدا للدولة والمجتمع.
* الجزيرة. نت (بتصرف يسير)