صلة الرحم أمر عظيم وجليل بكل معنى الكلمة، أمر نص عليه الدين الإسلامي بنصوص عديدة ومتنوعة، والعكس.. جاءت الشريعة بنصوص تنهى عنى القطيعة وعدم التواصل، وبشكل الخصوص بين الأقارب مع التركيز على الوالدين وصالاً وجوباً، ونهياً مقاطعة.
وحث الإسلام العظيم على الوصل والتعارف بالزيارات والمسامحة وحسن المعاملة عموماً والأقرباء بشكل أخص، ونشر الابتسامة وبشاشة الوجه وتبادل الزيارات بل وحتى بمد يد العون بالمال.
وصلة الرحم كما هو معلوم تعني المعروف والإحسان إلى الأقارب، وواصل الرحم هو من يحسن للأقارب والأهل، فصلة الرحم أمر واجب، فإحياؤها أمر بمعروف، والعمل على قطعها أمر لمنكر! فلذلك عظم الله تعالى صلة الأرحام وقدَّرها، فقال سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء).
ومن أهم وأعلى مواقع صلة الرحم الإيجابية صلة الوالدين لا شك ولا ريب، وكلنا يعلم أن لوالدينا أحياء كانوا أو أمواتاً فلهم حقوقهم الشرعية والإنسانية الاجتماعية والخلقية، ورضاهم من رضا الله تعالى، وصلتهم لا تكون صلة فقط؛ بل صلة مع خفض الجناح والذل لهما وهو أمر واجب لهم، وقطيعة الرحم إثم لا شك وبشكل الخصوص مع الوالدين أكثر حرمة وأكثر جرماً، ولا شك أن وسائل التواصل الاجتماعي بشكل العموم من الأمور الجميلة جداً والمفرحة للإنسان السوي، ولا شك مع الوالدين تكون أكثر سعادة وأنساً دنيا وآخرة.
خُلِق الإنسان هكذا اجتماعياً، فإن لم يكن كذلك فهو مخالف لفطرته التي خلقه عليه الخالق؛ قال تعالى في كتابه العظيم: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات: 13)، والتعارف لا يأتي بالتباعد، إنما لا يكون ولا يتكون إلا بالتواصل والسماحة وحسن التلاقي والتبسم والتنازل أحياناً بالاتفاق، والتمسك بما هو جدير بالتمسك به، وطرح المتفق عليه ابتداء، وتأجيل المختلف فيه وعليه.
نعم خُلِق الإنسان هكذا، وجعل الله فطرته وجبلته أنه يحب التقارب، ولا تستهويه العزلة والجفوة، ولا يكون كذلك إلا إذا كان غير سوي؛ أي مريض نفسياً أو عقلياً، أو طرأت عليه طوارئ أخرجته من فطرته الإيجابية إلى وضع سلبي بسببه تقوقع أو تستهويه العزلة لأنه غير سوي لطارئ طرأ عليه.
قاطع الرحم مغضوب عليه، ولا خاسر وفاسق مثل قاطع الرحم، بل هو ملعون في كتاب الله العظيم، قال تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ {22} أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) (محمد).
كان أهل الصلاح والفلاح يوصون أولادهم وفلذات أكبادهم بقولهم لهم: “لا تصحبن قاطع رحم، فإني وجدته ملعوناً في كتاب الله تعالى في مواطن عديدة”، وكان يرى الصالحون أن صلة الرحم والعامل بها جدير بأن يطلق عليه “صحبة صالحة”.
نعم أيها القارئ الكريم، لأن قاطع الرحم لا يقبل منه عمل، وذلك كما جاء في حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن أعمال بني آدم تعرض على الله تبارك وتعالى عشية كل خميس ليلة الجمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم”، وكما جاء في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله”.
هذه هي منزلة الرحم ويجب على الإنسان المؤمن يقدر معنى صلة الرحم إيماناً، ومن ثم عملياً جوارحياً، وذلك بدوام السؤال عن أحوال الأرحام في كل المناسبات أفراحاً وأتراحاً، ومشاركتهم ذلك، وتقديم كل مساعدة لهم من غير سؤال، وصون كرامتهم قولاً وفعلاً حضوراً وغياباً.
ومن جميل ما قيل في الأخلاق عموماً أمور عديدة، ومنها صلة الرحم كما قيل: “صدق اللسان، والمكافأة للصنائع، وحسن الخلق، وصدق البأس، وإعطاء السائل، وصلة الأرحام”.
ومن صلة الرحم الصدقة، كما قال كثير من أهل العلم الصدقة على روحه بعد الممات وخاصة الوالدين والدعاء لهما بالخير، ولغيرهما عن ظهر غيب، ولا تستكثر هذا التبرع أو الصدقة في صلة الأرحام أحياء وأمواتاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من سره أن يبسط له رزقه أو يُنسأَ له في أثره فليصل رحمه”، والصلة كما ذكرنا آنفاً تواصل سواء كان عينياً أو هاتفياً أو صدقة حياة ومماتاً، قال صلى الله عليه وسلم أيضاً: “إن صلة الرحم محبة في الأهل مَثراة في المال، منسأة في الأثر”.
أختم بهذا الحوار العظيم بين العظيم الأعظم خالق الخلائق وبين مخلوقته “الرحم”، عن أبي هريرة رضي الله عنه: “إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب، قال: فهو لك”.