– إن غاب الوجود الاستعماري المباشر ففكر وثقافة ومصالح المستعمر باقية وتتمدد بإدارة عناصر محلية
– استطاع المستعمر اختراق الشعوب في عقر دارها بدون سلاح في أسلوب راقٍ ظاهره فيه الرحمة وباطنه كله عذاب
– الحرية قائمة على الفطرة السليمة التي تؤمن بالحوار ولا تقيد الفكر ولا تقصي العقل
بعد انطلاق ما عرف تاريخياً حركة الكشوف الجغرافية، ثم ظهور ما عرف بالاستعمار الأوروبي الحديث من خلال قيام الجيوش الأوروبية باحتلال أراضي الغير واستعباد الشعوب والسيطرة على ثرواتهم وتقييد حرياتهم.
وبعد نجاح حركات التحرر من الاستعمار المباشر –احتلال الأرض– بدأت مرحلة جديدة وهي احتلال العقل الذي بدأ العمل عليه مع بواكير الأيام الأولى من مراحل الاستعمار؛ وهو إقصاء العقول المحلية وإزاحة القيم الدينية والأخلاقية لدى مجموعات مختارة وبعناية من أبناء الدول المُستعمَرة وبناء عقول محلية الشكل غربية المحتوى والمضمون، من خلال عملية طويلة المدى بعيدة النظر؛ مستشرفة لآفاق المستقبل التي تعي أن بقاء المستعمر إلى زوال؛ لذلك عمل على أن يستمر بقاء الاستعمار بصورة غير مباشرة، ولكن لها فاعلية أقوى وأكثر تأثيراً وبأقل تكلفة.
وإن غاب الوجود الاستعماري المباشر ففكر وثقافة ومصالح المستعمر باقية وتتمدد بإدارة عناصر محلية بعقول وأفكار وتصورات استعمارية لا تخرج عن مساره قيد أنملة.
استطاع الاستعمار بوسائله الخبيثة السيطرة على أصحاب الحق بدون استخدام القوة أو إنزال الحشود وتوفير الأموال والعتاد، ولا تضحية بسمعة قد تؤثر في تأليب الرأي العام العالمي ضدهم.
استطاع المستعمر بطريقته وأساليبه الجهنمية اختراق الشعوب والأمم في عقر دارها بدون استخدام السلاح والقوة، من خلال استلاب صميم عقولها عن طريق أساليب وطرق بمكر خبيث، تمثلت مصطلحات ذات جاذبية في أسلوب راقٍ ظاهره فيه الرحمة وباطنه كله عذاب.
تمثل في رفع شعارات الحرية والعدالة والمساواة، وبواجهات مثل العالمية والعلمانية والعولمة وما بعد العولمة والليبرالية والليبرالية الجديدة، والحداثة وما بعد الحداثة؛ هدفها الحقيقي هو زرع الشبهات وإرساء لقواعد المفاهيم المغلوطة داخل المنظومة العقلية للشعوب المُستعمَرة التي تؤدي إلى تغيير الفطرة السليمة ومحو المواريث القيمية الموروثة وتزيل العقائد الصحيحة وإحلال ثقافة المستعمِر محل حضارة وثقافة الشعوب المُستعمَرة.
إن الاستعمار الغربي أراد أن يصادر الأفكار ويحجر على عقول أبناء الشعوب المُستعمَرة ويغلق جميع المنافذ ويقطع كل سبل التواصل الفكرية والثقافية والمعرفية إلا نافذته وفكره ويفرض تفكيره الذي يعبر عن رؤيته التي تحقق له تبعية اقتصادية وسياسية وثقافية واجتماعية التي تصطدم مع فطرة وفكر وثقافة تلك الشعوب.
شكَّل هذا “الاستعمار الفكري والإقصاء العقلي” مشكلة في المفاهيم والتصورات لدى النخب الفكرية والثقافية التي تشكلت في المجتمعات –المُستعمَرة– التي يسمونها بالدول المتخلفة من فئة مستشرفة للمستقبل بعيون ترى في التقدم الغربي لدرجة لا ترى إمكانية اللحاق به، واقترحوا أن الحل في تبني مناهج التفكير التي قامت عليها الحضارة الغربية واستيعاب المبادئ والأسس والمفاهيم والتصورات التي قامت عليها تلك الحضارة؛ لأنه المنهج الذي يمكن أن يوصل إلى إبداع أفكار خاصة وجديدة، ثم نتحول من مرحلة الاتباع والاستهلاك إلى مرحلة الإبداع والإنتاج.
وهذا تسليم للواقع وقابلة للاستعمار وتنازل عن العقل والخصوصية والاعتراف بالدونية، ويمكن أن توصف هذه الحالة بحالة الدونية والاستغناء عن العقل تقوم عليها نخبة مسلوبة تقر بالتبعية العقلية والفكرية المطلقة للغرب تحت مسميات مختلفة مثل مثقف وتنويري ومفكر.. وما أبعد الشقة ما بينهم وما بين ما يدّعون!
يقابل هذا نخب فكرية رافضة للاستعمار الفكري والإقصاء العقلي والاستلاب الثقافي، ومباينة الاستعمار بكل طرقه وصوره وأشكاله بكونهم أحراراً، والحرية قائمة على الفطرة السليمة والعقل المنفتح الذي يؤمن بالحوار ويحترم التنوع والتعدد المعرفي والثقافي ولا يقيد الفكر ولا يقصي العقل.
وعلى هذا، يقام حوار الثقافات وتتلاقح الحضارات وتتعاون الأمم في الإبداع العلمي لتحقيق مصالح البشرية جمعاء، وخلق مجتمع إنساني تتاح فيه الفرص للجميع، وتتعاون الأمم في إيجاد العلاج والدواء لكافة بني الإنسان، وهذا لا يتأتى بإقصاء فكري أو إقصاء لعقل مهما اختلفت وتباينت وتنوعت الأفكار والاتجاهات والأديان والأعراق.