حالة من الجنون أصابت ساعة الحائط؛ لم تعد تؤدي عملها بالدقة المعهودة فيها، يتقلص النهار ويطول الليل وهي في غفلة، الأخطر في هذا أن ميزان الأسرة صار هو الآخر متأرجحا لا يدري له وجهة، أبي ينام دونما حاجة غير أن يصحب أهل الكهف، يصدر أصواتا مزعجة، يتعارك مع كائنات غير مرئية، يذكر أسماء من عالم الخيال أو لعله يسكن في العالم الآخر، كذلك أمي تظل شاردة تحدث نفسها غير عابئة بتدبير شأن البيت، تراكمت آنية الطعام مثل تلك التلة من النفايات أسفل البناية، تعيث الفوضى في الحي الذي نقطن فيها، خطوط النقل العام هي الأخرى ضربتها حالة من الهذيان تبدلت وجهة الأماكن، النوافذ تأبى أن تفتح، حجرات البيت تداخلت.
ماكينة “الصراف الآلي” تخرج كمية من النقود كبيرة جدا؛ شاع هذا الخبر في مقهى المحطة، في تلك اللحظة جرى كل من نمت إليه هذه الشائعة؛ يحلم أن يعود بأكياس مثقلة، ولأن ساعة حائطنا فقدت ذاكرتها لم نستطع إقناع أبي بأن يسرع ناحية ماكينة “الصراف الآلي” فما يزال النوم يسلبه وعيه، يعيش في حالة موت سريري، عجز الأطباء في تشخيص سبب نومه أو تقلب مزاجه، تبدلت ساعات اليوم رأسا على عقب منذ أصيبت عقارب الساعة بذلك المرض النادر، ولأن أمي لا تنام فقد طرقت الباب تحمل كيسا كبيرا، اشترت بكل راتب أبي المخزن في تلك البطاقة الممغنطة صافرات بلاستيكية، ديكا آليا يتراقص ويصيح دونما ميعاد، كذلك أحضرت قطارا يجوب حجرات المنزل، بدأ يقف عند باب حجرتي يعلي صافرته دونما سبب، لم تكتف بتلك المشتريات؛ جاءت إلينا بقط وفأر، ملأت خزانتها بثياب عرائس ودمى، أدوات زينة زاعقة، نسيت أن تحضر لنا علب الحليب، صار بيتنا حافلة نقل عام، ولعله أشبه بـ”سوق العتبة” الذي يجذب إليه سكان الشوارع الخلفية لكنه دون محال، تغيرت أسماء الشوارع، تبدلت الأرقام بخليط من أشكال سريالية، تتضور بطني جوعا، أبحث في الثلاجة فلا أجد غير أوراق مكدسة لماركات ثياب عالمية، أفتح صنبور المياه تتساقط منه عطور باريسية، يزداد بي الجوع، أشتهي كسرة خبز، أقلب في تلة الأشياء فلا أجد غير علب الزينة، بدأت أصاب بحالة من الهياج، يعلو صراخي؛ منذ ثلاثة أيام وأنا على هذه الحالة، يأتي صوت التلفاز منتشيا بعهد الرخاء الذي ينتشر في البيوت والحارات.
حتى أختي لم تعد تضع غطاء على رأسها، بدت مثل الدمية “باربي” تشتري ألعاب ” سلاحف النينجا” تعبت من رصد كل هذه التغيرات التي طرأت على بيتنا، حاولت إصلاح عقارب الساعة العتيقة؛ أصيب عقلي بدوار، إنهم سعداء بكل ما حدث.
لا جديد غير تلك الحياة المعلبة، بدأت تغزو مدينتنا كائنات مجهرية، تتحرك ممسكة هواتفها النقالة، شارة خرجت من شقتنا جعلتهم يصعدون الدرج في سرعة، لقد وجدوا سر ما أصاب المدينة، إنها الساعة المجنونة التي فقدت عقاربها، وكالات الأنباء ترسل من يجمع الصور، تدبج المقالات عن ذلك الحدث غير المعهود، تنتشي أمي طربا، بدأ النسوة يتناقلن صورها، صانعو الدمى وجدوا وجهها معبرا، فقدنا السيطرة على باب الشقة، استباح الجميع حجراتنا التي يوما كانت تغفو في زاوية النسيان.
لم يهتم أحد بأن يحمل إلينا زجاجة مياه، حالة من التبلد انتشرت في أسواق المدينة، نسي الناس شكل حبات الطماطم، فقدت المخابز وظيفتها، زادت ماكينات الصرف الآلية في دفع كمية كبيرة من النقود، لم يعد أحد يهتم بها، جاء الجوعى من الضواحي المحيطة بالمدينة يبحثون عن رغيف خبز فما وجدوه، تغيرت أشكال سكان الشوارع الخلفية، إنهم يبدون كما القطط والفئران، لا وجود لآنية الطعام ذات الرائحة الشهية، بطون النساء تتراقص جراء الثياب الزاهية، لا حاجة بهن أن يغتسلن، فالرجال دائما يغطون في سبات عميق.