“لا بديل عن التعافي والصمود”، بهذه الكلمات انطلق مختصون نفسيون واستشاريون أسريون في رسم خارطة تعافٍ نفسي للشعب الفلسطيني خاصة في قطاع غزة بعد العدوان الصهيوني الغاشم عليه في الفترة الأخيرة، ودشن البعض روابط في دول عديدة للدعم، فمن مصر أُعلنت مبادرات لتنسيق إرسال أطباء نفسيين ومختصين لعلاج اضطرابات ما بعد الصدمة في غزة، ما زالت في طور الإعداد.
“المجتمع” ترصد مع مختصين مصريين بارزين بعض معالم خارطة التعافي بعد العدوان والصمود بعد الأحزان في هذا التقرير.
عوامل المتانة النفسية
في البداية، تؤكد د. رسمية علي فهمي، المستشارة النفسية والأسرية، في حديث لـ”المجتمع”، أن عوامل المتانة النفسية أو الصمود تترسخ جولة بعد جولة لدى قطاعات الشعب الفلسطيني جميعها خاصة في قطاع غزة في مواجهة الاحتلال الصهيوني.
تكرار المواجهة أعطى للشعب الفلسطيني أساسيات هذه المتانة النفسية التي يحاول البعض أن يزيدها فيهم، ولكنها موجودة كأعمدة صلبة.
وترى د. رسمية أن تكرار المواجهة أعطى للشعب الفلسطيني -خاصة في غزة والضفة والقدس- أساسيات هذه المتانة النفسية التي يحاول البعض أن يزيدها فيهم، ولكنها موجودة كأعمدة صلبة، وتحتاج إلى مزيد من الصيانة والرعاية وعدم التغافل أو النسيان ليزداد التحفيز النفسي لهذا الشعب المقاوم في صموده ومعاركه المتنوعة.
وتشير إلى أن رسالة البناء بعد التدمير هي رسالة دعم نفسي كبيرة يجيدها الشعب الغزاوي، ويحتاج أن يسمعها من الدول الداعمة لفلسطين، حتى إنه في دول الاتحاد الأوروبي هناك من يعلن هذا المسعى، وهو ما يشكل لبنة مهمة في الدعم النفسي للشعب الفلسطيني كله.
وترجع د. رسمية فهمي عوامل المتانة النفسية الموجودة والمنتظر تحفيزها أكثر إلى التناغم الفكري والعقائدي في مواجهة الاحتلال، وعدم وجود تمزقات في هذا الإطار داخل الشعب الفلسطيني خاصة في القدس وغزة؛ فالشعب كله منظومة تناغم واحدة وما يسمعه الطفل في المدرسة يسمعه في المنزل يتكرر أمامه في الشارع في عبارات متقاربة مضمونها: “نحن أصحاب قضية عادلة في مواجهة محتل ظالم”، وهذا أخطر شيء وأهم مسلك؛ فالوعي الإيجابي والواضح يقوي نفوس أصحاب المبادئ والقضايا الكبرى.
وتشير د. رسمية إلى صورة ذهنية مهمة تتواجد في الشعب الفلسطيني وخاصة بالقطاع، وهي صورة الفرحة الإيجابية بالاستشهاد ودعم المقاومة رغم حملات التشويه للمقاومين عبر وسائل مسمومة كثيرة منها الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، التي نتجت عن طريق تربية واعية وإدراك مبصر بالحقائق، سواء الدينية أو الوطنية دفعت إلى التحفيز الإيجابي نحو سلك درب الشهادة والمقاومة، واعتبر الفقد، وهو ألم نفسي شديد، منحة ربانية لمن فقد ذويها على درب المقاومة والجهاد في سبيل الله.
وتؤكد المستشارة النفسية والأسرية المتخصصة في العلاج السلوكي المعرفي أن منظومة الإدراك والتفسير متينة بدرجة عالية في الشعب الفلسطيني خاصة في قطاع غزة، ولعلها بسبب وضوح الحقائق والقرب من الله ما عزز المتانة النفسية لديهم وما يجدد الأمل في استمرارها ويضع البوصلة لمن يريد الدعم سواء من الداخل أو الخارج.
منظومة الإدراك والتفسير متينة بدرجة عالية في الشعب الفلسطيني خاصة في قطاع غزة ولعلها بسبب وضوح الحقائق والقرب من الله
وتلفت د. رسمية الانتباه إلى أن وجود القدوة سواء في المنزل أو في المؤسسة الحاكمة في القيادات كإسماعيل هنية، ويحيى السنوار التي تشارك المتضررين في كل شيء، يعزز سلامة الداخل النفسي ويقاوم كل عوامل تآكل الصمود لأي مقاوم.
“لا بديل”، ملمح آخر تشير إليه د. رسمية، مؤكدة أن إحساس الشعب الفلسطيني بأنه لا يوجد بديل في كتب التاريخ وأحداث الواقع غير المقاومة والصمود يعزز لديهم الإصرار على إكمال الطريق حتى نهايته، ويقوي الصمود والمتانة النفسية؛ حتى وصل الأمر إلى إصرارهم على الولوج إلى عالمي الطب والهندسة لعلاج المصابين ودعم المقاومة بالعلم الحديث.
مسارات متوازية
“ملحمة ملهمة”، بهذا الوصف تحدثت د. منال خضر، مديرة مركز أسرتي للاستشارات الأسرية والتربوية، عما صنعه “الشعب الغزاوي” بطريقة أسطورية متتابعة من الجهاد والصمود أمام المحتل الصهيوني، رغم الصدمات النفسية والآلام الكبيرة بعد كل مواجهة مع العدو.
وتشير في حديث لـ”المجتمع” إلى أن الدعم الشامل مهم جداً لكل من ابتُلي من الأسر بالشهداء والجرحى، فتوارث الأجيال لهذا الإرث والفزع المتكرر والفقد المستمر والصدمات للأطفال الصغار من دوي الانفجارات وأصوات ضرب الرصاص، يتطلب الانتباه من الجميع، للوصول إلى صحة نفسية ومجتمعية متينة تستطيع الاستمرار، وهو ما يلقي على عاتق الجمعيات والمؤسسات الدينية والاجتماعية وكل المتخصصين أن يساعدوا أهل غزة في تأهيل ما بعد الصدمة.
وترى د. منال أن التأهيل يجب أن يسير في مسارات متوازية في نفس الوقت، وفي مقدمتها “التأهيل الديني”؛ حيث يجب –والكلام لمنال- أن تعد المؤسسات الدينية برامجها على أساس حياة الصحابة والسلف والتابعين والمجاهدين في مواجهة الظلم، وكيف كان دور الأطفال المجاهدين خاصة في هذه المعارك، وإعادة حكي قصص البطولة والكفاح الغزاوية والفلسطينية لتكون قدوة لهم أيضاً لتأكيد أن هؤلاء الشهداء والمجاهدين لا ينساهم التاريخ أبداً.
التأهيل النفسي للشعب الفلسطيني مهم جداً ويتطلب تحركاً سريعاً من المختصين على أرض الواقع هناك بدعم من المختصين الداعمين للقضية في كل أنحاء العالم
وتؤكد د. منال أهمية انخراط كل أفراد الشعب في إعادة إعمار غزة وبنائها أفضل مما كانت عليه؛ لأن المشاركة في البناء تخرج من النفس طاقة اليأس والحزن وتمد الروح بطاقة أمل في مستقبل غزة، والعلاج يكون أفضل وفعالاً عندما يذوب الإنسان في هدف أسمى من آلامه وفقدان الأحبة، وليس أسمى وأغلى من إعمار وطن دفع ثمن إعماره دماء الشهداء.
وتشدد المستشارة الأسرية والتربوية على أهمية أن يخضع كل من يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة للمتابعة مع أطباء نفسيين، تسمع آلامهم ومعاناتهم، فضلاً عن التعايش الإنساني عبر جلسات مع المصابين المتعافين وأسر الشهداء ليتعلموا منهم كيف اجتازوا صدمتهم واستطاعوا أن يخرجوا منها وهم بخير وواثقون من أنفسهم ومن قضيتهم العادلة وحقهم المشروع في الدفاع عنها.
وتلفت د. منال الانتباه إلى أن للرياضة دوراً كبيراً في معالجة الحالة النفسية ما بعد الصدمة، وتدعو إلى الاهتمام بعمل مسابقات رياضية بأسماء شهداء ومصابين من رموز الجهاد الفلسطيني وإعطاء ميداليات بأسمائهم، ما يساعد على تجاوز الألم والحالة النفسية للمصابين وأسر الشهداء.
جرائم ممتدة الأثر
من جانبه، يرى د. محمد سهول، مستشار الصحة النفسية والإرشاد النفسي المصري، أن اضطرابات ما بعد الصدمة أو الكرب (PTSD) أمر حتمي في ظل بشاعة جرائم الحرب الصهيونية المتصاعدة ضد الشعب الفلسطيني وخاصة في قطاع غزة، وهي تشكل جرائم ممتدة الأثر، تتطلب وقتاً طويلاً من التعافي إذا لم يتم التعامل معها بقدر من المسؤولية المجتمعية والتدخل الطبي اللازم.
ويشير د. سهول، في حديث لـ”المجتمع”، إلى أن التأهيل النفسي للشعب الفلسطيني، وفي القلب منه قطاع غزة، مهم جداً، ويتطلب تحركاً سريعاً من المختصين على أرض الواقع هناك بدعم من المختصين الداعمين للقضية في كل أنحاء العالم، مثمناً كل الجهود التي بدأت على الأرض هناك مع الأطفال خاصة بمحاولة تحسين ظروف نومهم وعلاج الذعر المطارد لهم في منامهم، بجانب بدء جلسات التعافي ووسائل الدعم النفسية المتنوعة، متوقعاً تجاوز الفلسطينيين هذه المحنة كما عودوا العرب والمسلمين في كل مرة.