مزية الحديث مع الأستاذ الندوي أنه حديث مع شخصية عالمية أنضجتها تجارب أكثر من نصف قرن من الزمان.. في حلقة هذا العدد نستطلع رأي العلامة الندوي فيما يتعلق بالتطرف ووحدة العمل الإسلامي، وقضية الإسلام والحكم، وقضية السلام العالمي.
في الهند تبدو ملامح أندلس جديدة إذ غُيرت أسماء بعض المدن الإسلامية، إضافة لمظاهر أخرى معروفة.. ما الصورة التي ترونها في المستقبل للمسلمين في الهند، وربما تكررت هذه الصورة ـ أعني الاعتداء على المسلمين ـ في مناطق أخرى مثل البوسنة والهرسك والشيشان إلى آخر المآسي المعاصرة.. وهل يمكن لما تحملونه من «رسالة الإنسانية» أن يقاوم ذلك؟
– الطريق الوحيد لعودة المسلمين إلى حياة شريفة، وحـياة تليق بـهم كخلفاء لرسل، وكمأمورين لإصلاح العالم، عليهم أن يملؤوا الفراغ الذي يوجد في البلاد، وهو فراغ القيادة الصحيحة المخلصة الخاشعة لله تعـالى والمحترمة للإنسانية، لذلك بدأ بعض إخواننا ـ وأنا من جملتهم بحـمل رسالة هي رسالة الإنسانية.. وقد قمنا لنملأ هذا الفراغ ونشعر ونبعث في نفوس الناس احترام الإنسانية.. فقد وصلت الآن الاستهانة بالإنسانية حداً كبيراً لدرجة أنهم يحـرقـون العرائـس لأنها لم تـأت بالجهاز المطلوب وبقـدر مـن المال في الهند.. وقد جاء في بعض الصحف القومية الوطنية «ديلي» في كل اثنتي عشـرة ساعـة تحرق عروس في «دهلي» لأنها ما جاءت بالمال المطلوب، بل جاءت بزاد زهيد وبحلي قليل.. الآن الطريق الوحيد للمسلمين هو أن يقوموا ويملؤوا هذا الفراغ، فراغ القيادة، ويبعثوا في الناس احترام الإنسانية بصرف النظر عن الديانات، عن المذاهب الكثيرة، أي أن يُحترم الإنسان كإنسان، فإذا وجـد هـذا، فإن المسلمين يتبوؤون منصب القيـادة، وهـم يكسبون الود والاحترام.
هل يمكن أن يقابل المسلمون مخططاً للإبادة برسالة الإنسانية وهم يواجهون الأندلس الأخرى؟
– نعم.. عندهم مخطط لإبادة المسلمين.. ولكن هذا المخطط يقاوم بهذا الطريق.. لأن الإنسان مهما فسد، ومهما تردى، ومهما ابتلي بأمراض خلقية ونفسية، فإنه يقدر الشيء الطيب، ومهما وصل إلى العصبية الطائفية في مقت الإنسان ومقت الديانات، فإنه على كل حال يقدر ويعرف قيمة الإخلاص وقيمة التضحية، من يضحي له يقدره، فإذا وفِّق المسلمون بإذن الله تعالى أن يضحُّوا بمصالحهم الشخصية ومصالحهم الطائفية ويرجحوا مصلحة الإنسانية فوق هذه المصالح، فإن الله تبارك وتعالى ينصر من يحتل المكان الفارغ في نفوس الشعب.. بالتقدير والإجلال.
تبدو رؤيتكم في التغيير أبعد ما تكون عن أي مقاومة للحصول على ما يمكن أن يكون حقاً للمسلمين.
– نعم.. أنا أميل إلى هذا.
يتجمع أعداء كثيرون لمحاربة الإسلام والكيد للمسلمين تحت اسم محاربة التطرف.. كيف ترون هذه الصورة؟
– التطرف لابد من أن يشرح وأن تكون له حدود، التطرف مطلقاً لا يُنكر ولا يُمدح، التطرف: هذا شيء طبيعي، ولكن لابد من أن يكون له حدود، فإذا لم تكن هذه الحدود فلا يمكن الحكم على التطرف.
التطرف في أي مجال: في العقيدة أم في المدنية أم في أي شيء.
ربما يتحدد هنا بعض الجماعات الإسلامية التي تتخذ الطريق المسلح لإحداث التغيير في المجتمعات؟
– هذا يُزهد فيه قدر الإمكان، لأن النسبة العددية ـ مثلاً في الهند ـ بعيدة بين المسلمين وبين الهندوس، فإذا لجأ المسلمون إلى التطرف ـ حمل السلاح ـ فإن الهندوس ـ الأكثرية ـ سيغلبون. لا سبيل الآن إلا الإخلاص واحترام الإنسانية، وحب الخير للجميع.
في الغرب يلتصق اسم المسلم بالتطرف.. وتحت دعوى محاربة الأصولية يحارب الإسلام ويضيق على المسلمين.. بم تنصحون المسلمين في ذلك؟
– هذا من دعاية أوروبا، ومن دعاية أعداء الإسلام، وأنصح المسلمين برسوخ العقيدة الإسلامية والإخلاص لله تبارك وتعالى، وحب الخير للإنسانية.. والغيرة على مستقبل الإنسانية، والغيرة على الشرف الإنساني، هذا هو الذي يفتح الطريق، ويزيل العوائق.. وهكذا كان المسلمون خلال التاريخ
تتعدد في هذا العصر الجماعات الإسلامية التي تعمل لهذا الدين.. ما موقفكم من هذه الجماعات وهل توجد لسماحتكم صلات مع بعضها يمكن من خلالها أن توجهوها الوجهة الصحيحة؟
– نحن نشير عليهم بالطريق الصحيح القويم، ونبدي ملاحظاتنا، وهم يقدرونها، وليس بين الجماعات الإسلامية في الهند منافسة.
أما في البلاد العربية فقلما يتفق لي أن أُراجع في هذه القضايا وأن أبدي رأيي فيها، وأما في شبه القارة الهندية فصلاتنا طيبة مع الجماعات الإسلامية كلها.. نتعاون مع هذه الجماعات كلها.
هل تبدو في رؤيتكم فرصة لتحقيق وحدة أو تنسيق بين هذه الجماعات الإسلامية مما يركز الجهد ويوفر الطاقة ويصوبها نحو الاتجاه الصحيح؟
– نعم أرى أملاً في ذلك إذا كان هناك رجال مؤثرون، مخلصون، موثوق بهم، وليس لهم مآرب لا شخصية ولا جماعية كذلك.
يطالب بعض الجماعات ولي الأمر بإصلاحات، وتغييرات، ويستهجن ذلك ولي الأمر، ويظل هذا سجالاً طويلاً بغير انتهاء، ويقوم بعض المشادات بين الجانبين.. إلى متى تستمر هذه الصورة؟
– هذا كله ليس له قاعدة مـطــردة.. وهذا يرجع إلى العقل السليم، والفطرة السليمة والإخلاص، واستهداف النجاح، وتحقيق هذا المطلوب بأي طريق كان..
ما صورة مشاركة الشباب المسلم في النشاط السياسي في الدول الإسلامية؟
– يرجع هذا إلى تربية الشباب وإلى إيضاح المنهج لهم في ضوء الكتاب والسنة، وفي ضوء تاريخ القيادات، وفي ضوء التجارب العصرية كذلك.
يجب أن تكون للمشاركة السياسية للشباب المسلم حدود إسلامية، في نطاق ما يسمح به الإسلام، وما يدعو إليه الإسلام.. يجتهدون ويمارسون السياسة ولكن لا يتخطون الحدود الإسلامية.
ما تلك الحدود الإسلامية؟ وما علاقتهم بأولياء الأمور؟
– هذه الحدود يمكن أن تُرسم، ويمكن أن تُعيَّن من قبل العلماء الدارسين.
يُتهم بعض الإسلاميين الآن بأنهم يحرصون على الحكم.. ويرون أن حرص بعضهم على الحكم يضر بالدعوة الإسلامية.. ما رأيكم؟
– شاع عني في ذلك كلمة نقلت كثيراً وهي أني أفضل المحاولة لوصول الإيمان إلى أصحاب الكراسي على المحاولة لوصول أصحاب الإيمان إلى الكراسي مباشرة، فبدل أن يحاول أصحاب الدعوة الإسلامية أن يصلوا بأنفسهم وأجسادهم إلى كراسي الحكم، يحاولون ويجتهدون أن يصل الإيمان والشعور الإيماني والغيرة الإيمانية إلى أصحاب الكراسي.. وهم يحمون الإسلام، ويتبنون الإسلام وهم يدافعون عنه.. بدل أن يصل أصحاب الدعوة الإسلامية إلى الكراسي ويستولوا عليها.. فبدل الاستيلاء على الحكم يجتهدون في دفع وتأهيل الحكام إلى الانتصار للإسلام وحمايته.
وهل يجـدي هذا الطريق عـبر التاريـخ القديم والحـديث، أعـني عـبر التجربة الحية؟
– نعم.. لقد أجدى وهناك مثل رائع مع الشيخ أحمد السرهندي مجدد الألف الثاني، وقد أدرك عصر السلطان جلال الـدين أكـبر الإمـبراطور الأكبر في الهند وبدوافع سياسية وشخصية جاءت من إيران كان هذا الإمبراطور ـ ونتيجة مؤامرة ذكية جداً ـ اعتقد أن الحكم المغولي لا يبقى في شـبه القـارة الهندية إلا إذا كان له أنصار من البراهمة، وإلا إذا كان متجهاً اتجاهاً محايداً لا يتحيز إلى دين من الأديان، ولا يرجّح ديناً من الأديان، بل ينتصر ويشايع البرهمية سياسياً وثقافياً ودينياً.. وتبني فكرة وحدة الأديان، وإزالة كل الميزات للمسلمين، حتى أنه منع ذبح البقرة، ويقتل الإنسان بها إذا ذبحــها، وأبـاح لحم الخنزير، إلى غير ذلك من الأشياء التي شرحتها في كتابي «رجال الفكر والدعوة في الإسلام»، «الجزء الرابع في الأوردية والثالث في العربية»، الشيخ أحمد السرهندي أقنع الحكام بأنه لا يريد الحكم، وأنه لو عرض عليه الحكم ما قبل، ولو رآه في المنام لفزع.. يريد أن يحكم الحكام المسلمون وعلى رأسهم الإمبراطور، ويراعى الاحترام للشريعة الإسلامية، ويمنح المسلمون حـرية عملهم بالأحكام الشرعية وبالحرية الدينية، لم يكن هناك اصطدام أبداً، وكان يسعى ويراسل رجال بلاط الإمبراطور ووزراءه، وكان نتيجة ذلك أنـه لم يحدث الاصطدام.
وجاء جاهنجير ابن السلطان جلال الدين أكبر فاحترم الشيخ السرهندي وأراد أن يرافقه في بعض دوراته السياسية وتأثر ببعض تعليماته.. ثم جاء بعده جانجيهان الذي بنى تاج محل، وكان أحسن منه ديناً، ثم جاء بعده أرمزية بارمجير الذي قال عنه صديقنا الأستاذ علي الطنطاوي ـ أحد كبار الأدباء والمؤرخين ـ يجب أن يعتبر أحد الخلفاء الراشدين. وهذا كله نتيجة حكمة الشيخ السرهندي الذي تفادى الاصطدام وتجنبه، وصار يبذل نصيحته فقط ويراسل ويتصل بأركان الدولة يحثهم ويثير فيهم الغيرة الإسلامية، فنجح بالتدريج.. ومع أنه كان بالتدريج لكنه نجح نجاحاً كبيراً.
هل ترون أن هذه التجربة الثرية للشيخ السرهندي يمكن أن تتم مع الحكام المعاصرين مع أن المناخ الدولي بما يحتويه من ضغوط دولية قد تحمل تأثيراً جديداً في سياق العلاقة بين الحكام والرعية؟
– يمكن ذلك، ويمكن أن ينجح المسلمون في هذا.
ترتبط عملية التغيير عادة ببعض الاختلافات بين أصحاب الدعوة الإسلامية، فمنهم من يرى منهجاً معيناً في الدعوة يجعله يتغاضى عن بعض البدع والخرافات في سبيل تحقيق مصلحة أكبر، وآخرون لا يرون ذلك.. كيف تبدو ملامح القضية والحل في رؤيتكم؟
– أرى أهمية في النهي عن البدع والخرافات وغير ذلك ولكن بحكمة ورفق.
يرى بعضهم أن ثمرة الجهاد الأفغاني قد ذهبت في الواقع الحالي فما رأيكم؟
– وأنا ـ وإن لم أقل ذلك صراحة ـ أرى ذلك، ولكني متردد في هذا!
السلام العالمي يردده كثيرون، خاصة في الآونة الأخيرة.. وفي سياق صلح.. إسرائيل مع الدول العربية تأتي قضية السلام.. هل ترون العدو الإسرائيلي جاداً في دعوى السلام؟
– السلام العالمي لا ينكره أحد، ولكن الداعين إليه إذا كانوا مخلصين، وكانوا محايدين غير منحازين إلى فئة وإلى غاية سياسية، فإنهم يكسبون الثقة والاحترام، أما “إسرائيل”، فهي خطر على العالم الإسلامي كله، إنها مخطط دقيق ورهيب، إنها ديانة ضلالية تؤمن بأن بني إسرائيل هم الذين لهم الحق وحدهم ليحكموا العالم وليتصرفوا في العالم، ويصوغوا العالم صياغة إسرائيلية.. إنهم حرضوا على إفساد أخلاق الشعوب عن طريق الروايات وعن طريق الأدب وعن طريق المسرحيات، وعن طريق الإذاعة ووسائل أخرى.. وهم الآن قد حازوا ثقة أمريكا.. فهناك تعاون بين أمريكا و”إسرائيل”، فإن هدفهم واحد.
فأمريكا في مكانها و”إسرائيل” في مكانها إنما يحذران الإسلام فقط، لأنه دعوة عالمية وقضية مبدئية خلقية.. فإنهم بعد أن انهارت الشيوعية في روسيا، ما بقي لهم خطر يخافونه ويحسبون له حساباً كبيراً إلا الإسلام فقط.
وهذه النقطة التقت عليها “إسرائيل” وأمريكا.. وعندهم الآن مخطط إبادة المسلمين معنوياً وخلقياً وعقائدياً.. إنهم يخافون الإسلام.