في وقعنا المعاصر، يواجه الدعاة مجموعة من التحديات، وعدداً من العقبات، وجملة من الفتن، التي تعمل على نخر جسم هذه الأمة، وتؤدي إلى جملة من الأمراض المقعدة لهذه الأمة، رغم أنها بحاجة لتجاوز هذه الفتن حتى تتعافى من هذه العلل، ليعود جسمها قوياً نشطاً، يستطيع القيام بواجبه الحضاري في الدعوة إلى الله تعالى، بمفهومها الشامل.
الموضوع طويل الذيل، لكني سأركز على فتنتين تشكلان حجر الزاوية في أيامنا هذه، في إطار استهداف مجتمعاتنا المسلمة، هما: فتنة الغلو، وفتنة الابتعاد عن شرع الله تعالى.
فتنة الغلو:
– الغلو (التطرف).. وهو حالة تيه، في عالم يموج بالشرور.
– الغلو.. طغيان، يصيب الفرد، ويعتدي على الأسرة، ويضيع المجتمع، ويخسف بالحياة.
– الغلو.. لا يعرف الصفاء، ولا الأنس بالخير، بل كدر كله، وضياع وإحن.
– الغلو.. ليس من الحق في شيء، ولا اقترب منه، ولا شم رائحته، سبحان الله! وهل يجتمع الضدان، أو يلتقيان؟
– الغلو.. مرض، أوله ثقل، وأوسطه عناء، وآخره هلاك.
– الغلو.. عدو مبين، يقعد بلا بصر، ويمشي بلا نظر، ويخطو دون حساب السنن، ويسفك الدم بلا وجل، ويقضي على ساعات الهناءة، بلا وجع قلب.
– الغلو.. صورة من صور الجشع، وبرنامج من برامج الجوع النفسي، لا توقفه إلا صدمات الواقع وإقعاداته.
– الغلو.. عذاب أليم، وشقاء وبيل، وتعب فظيع، ومكر مربك، وحيرة مذهلة، واضطراب مقيت، وحرمان خطير، وبؤس لافت.
– الغلو.. هدم لا يعرف البناء، ولا يقترب من أسواره، بل يؤثر على أبنية من حوله بزلزال.
– الغلو.. غلظة، وجفاء، وقسوة، ورهان شر، ومصارعة مع الضمير، وصراع مع الأحاسيس، وانتفاضة في مظاهر الخطأ.
– الغلو.. خصم الفطرة، يبعث على الضيق، ويدفع نحو زوايا الضيم، ومعالم القهر.
– الغلو.. ظلم للنفس، يحملها على عربة المشقة، ويطوف بها في أسواق الحرمان، ويعرضها في معارض العبيد، أليس الغلو بيعاً للنفس، في حوانيت التسكع الفكري، وشوارع التمرد على صبغة الله؟
– الغلو.. لا يعرف الرحمة، ويمضي في طرائق الوحشية، ويسترسل في أحضان الشيطنة، ويتعارض مع إنسانية الإنسان.
– وكيف لا يكون ذلك، وقد حذرنا منه ديننا أيما تحذير؛ ففي الصحيح من حديث أبي هريرة قال: قال رسول لله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: «إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه»، وفي حديث صحيح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِه: «الْقُطْ لِي حَصًى»، فَلَقَطْتُ لَهُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ، هُنَّ حَصَى الخَذْفِ، فَجَعَلَ يَنْفُضُهُنَّ فِي كَفِّهِ، وَيَقُولُ: «أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ فَارْمُوا»، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ».
وفي الصحيح من حديث عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ، صُمْ، وَأَفْطِرْ، وَقُمْ، وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقّاً..».
فتنة الابتعاد عن شرع الله تعالى:
– وذلك من خلال مظاهر متنوعة، ومسائل متعددة، وقضايا كثيرة، يجمع بينها صور الابتعاد عن منهج الله تعالى، والسقوط في حمأة الشيطان، والارتكاس في أوحال الضلال، وعماد الأمة وخيرها وبركة وجودها في التزامها بهذا الدين وتمسكها به.
– واليوم رغم الخير الكثير في هذه الأمة في مشارق الأرض مغاربها، فإنها تعاني في بعض مفاصل جسدها من هذا المرض الفتاك، اليوم هناك فساد أخلاقي موصوف معروف، من بعض حقائق هذا المرض انتشار المخدرات وغيرها من الموبقات، كما أن التفكك الأسري الصارخ يئن من يكتوي به أنيناً لا يوصف ألمه، وعدم الالتزام بالواجبات الشرعية، والأخلاق المرضية، من مظاهره البارزة، ولعل أخطر ما نواجهه في هذا الميدان بروز ظاهرة الإلحاد، ومن مظاهره السخرية من هذا الدين، ومن قيمه الثابتة، وغير ذلك من مفردات هذا الشأن، والأمر خطير للغاية، وتقوم عليه مؤسسات عالمية، ونواد ممولة، ومعاهد ناشطة، ووسائل إعلام خادمة لهذا، خصوصاً في «السوشيال ميديا»، ووسائل التواصل الحديثة.
– وهذا الخطر من كبر حجمه، وقوة نشاطه، استطاع أن يصل إلى بيوتنا الإسلامية، ويغزونا في عقر دارنا، وهنا يعظم الخطر من خلال إنذارات مرعبة، وهنا تدق نذر التنبيه مرتفعة الصوت، لتدلنا على ضرورة أن نقوم بواجب الوقت في النهوض ببرامج ومناهج الدعوة إلى الله تعالى.
وصايا علاجية:
وبعد هذا، علينا أن نلاحظ ما يأتي، وندقق النظر فيه، ونتفكر في معانيه، بحيث تكون مسؤولية الدعاة كبيرة ومهمة ودقيقة، ولا بد أن يكون هناك تكامل في جهود جميع الدعاة العاملين في الساحة، وجهود يظهر أثرها بشكل واضح وجلي.
ومن هذه الأشياء التي ينبغي مراعاتها في برامج العمل ما يأتي:
– الاهتمام الكبير بشأن مناهج التربية، والكتب المعتمدة، والترويج لمؤلفات كبار العلماء والمفكرين، الذين اتسموا بالوسطية والاعتدال والفكر النظيف، المستمد من المصادر الشرعية، الذين يقوم اجتهادهم في فقه الدعوة، ووسائل العمل المعاصر على ثوابت الأمة، وقوانين الشريعة، بلا إفراط ولا تفريط، من أمثال: الإمام حسن البنا، والعلامة أبو الحسن الندوي، والشيخ الطنطاوي، ومدرسة العلامة حسن حبنكة، والعلامة أمجد الزهاوي، والعلامة الزرقا، ود. حسن هويدي، ود. يوسف القرضاوي، ود. عبدالكريم زيدان، ود. مصطفى السباعي، والعلامة السعدي، ود. سلمان العودة، والشيخ الددو.. وغيرهم كثير.
– ونحتاج إلى فقه يعالج مستجدات الحياة، ويتعامل معها برؤية سديدة، من خلال فقه واقع له أسسه وركائزه المعتمدة، بلا إفراط ولا تفريط.
– يجب العناية بشأن التربية عناية فائقة، تنتظم أبناء العمل الإسلامي كافة، حتى ينعكس ذلك على جمهور المسلمين، لسد الخلل، وردم الفجوات، ومعالجة النتوءات الخطرة، وتقليم أظافر شيطان التفلسف، فالتربية لها أكبر الأثر في معالجة هذه المسألة، ولا يجوز أن نغفل عن هذا الجانب، في كل الظروف والأحوال، كما لا يصح في عالم ترتيب برامج العمل أن تتأخر التربية ويتقدم سواها، مع ملاحظة لزوم إعطاء كل ذي حق حقه، في مفردات العمل وقوانين المسار.
– الفكر المتوازن والسلوك المنضبط من ضروريات التربية السليمة، حتى نتجاوز ظاهرة المنبتّ الذي لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى، فإن سر ديمومة الخير في العمل الإسلامي، والدعوة إلى الله تعالى، تكمن في جملة من الأسباب، منها هذا الذي نذكره.
– العناية بخطبة الجمعة، والدرس، والمحاضرة، والخاطرة، من وسائل تربية الناس على وسطية الإسلام.
– برامج الفضائيات والوسائل المسموعة لها أثر كبير في التربية السليمة القويمة.
– الكلمة المكتوبة طائر خير يطير بجانحي التوازن والانتقال الآمن حتى يحط رحاله عند كثير من المحطات، ويصل إلى مجموعات مذهلة من الناس، خصوصاً بعد هذا الانفجار المعرفي، الذي جعل الكلمة عابرة للقارات، وبأكثر من سرعة البرق؛ فالقصيدة تعمل عملها في البناء السليم، وكذا الكتاب، الذي ربما عمَّ نفعه حتى يكون في أكثر بيوت المسلمين، مثل كتاب «رياض الصالحين» للإمام النووي، ونحن في عصر السرعة، نحتاج إلى المقالات الهادفة، والبوارق المؤثرة، والخواطر المشوقة، والكلمات الجذابة.
– لا بد من التنويه إلى أن الغلو (التطرف) والانحراف عن منهج الله تعالى والشرود عنه، والابتعاد عن مصادره، والتمرد على قوانينه، لها أشكال متنوعة، وصور متشعبة، وألوان متعددة، وروائح متباينة، وطعوم مختلفة، كلها تحتاج إلى عمل دؤوب، ونشاط استثنائي، مع ضرورة عقد الندوات لدفع الشبهات، مع تواصل مستمر مع جمهور المسلمين، خصوصاً الشباب، ومحاورتهم واحتضانهم والترفق بهم، فالأمر جلل، والحدث كبير.