قد يتسائل البعض لماذا لم تصمد الأنظمة الديمقراطية التي جاءت بعد الربيع العربي وسقطت بشكل كبير ومتسارع وفشلت في إحكام السيطرة على البلاد بينما استطاعت الأنظمة القادمة من العدم السياسي من إعادة السيطرة على مقاليد الحكم بشكل سريع وإحكام القبضة مرة أخرى على الدول، مما يثير السؤال كيف تحكم الأنظمة المستبدة وما هي وسائلها في احكام القبضة على الحكم.
تعمد الأنظمة المستبدة الى عدة وسائل من أجل إحكام السيطرة على مقاليد الحكم حتى لو لم تأتي هذه الأنظمة من أوساط الدولة العميقة أو خبرات كبيرة في إدارة الدولة، فالاستبداد له تاريخ طويل في استخدام هذه الوسائل إذ أنها تعمل وفقا للآلية والاساليب التالية: –
الوسائل الخارجية
الشرعية الخارجية، تدرك الأنظمة المستبدة أن الدولة هي أرض وشعب ونظام سياسي (واعتراف دولي)، وأنها لن تستطيع الحكم بدون أن يكون هناك اعتراف ورضى من الدول القوية في الخارج فتسارع هذه الأنظمة إلى إرضاء القوى المؤثرة في محيطها السياسي وذلك من خلال حفظ مصالح تلك الدول الكبرى ولو على حساب الدولة التي يحكمها
تعمل الأنظمة المستبدة على إثارة مخاوف الدول الكبرى المؤثرة بأن البديل عن حكم المستبد هو التطرف وتفشي العنف والإرهاب الذي سوف يهدد الدول الكبرى واستقرارها كما يهدد نظامه المستبد، ويقدم الاستبداد نفسه على أنه الحامي لأمن واستقرار دولته الذي يمنع موجات اللجوء إلى الخارج الذي تتحسس منها الدول الكبرى بشكل كبير وبذلك يضمن حياد الدول الكبرى أو تعاونها معه ودعمه مالياً وسياسياً في إحكام سيطرته واستبداده فتنازل الدول الديمقراطية عن مبادئ الديمقراطية تحت ضغط حفظ الاستقرار في الإقليم.
تعمد الأنظمة المستبدة إلى مد جسور التعاون مع الديكتاتوريات الأخرى في المنطقة المحيطة التي ترى في نجاح أي عملية ديمقراطية بجوارها تهديد لاستقرارها وسيطرتها، فيتعاونوا جميعا من أجل خنق وقتل أي نموذج ديمقراطي يمكن أن يغري الشعوب بالمطالبة بالديمقراطية وبذلك يستطيع المستبد الحصول على دعم الدكتاتوريات وبنفس الوقت حياد وصمت العالم المتحضر.
الوسائل الداخلية
تدرك الأنظمة المستبدة أن الإنسان أولويات وحاجات وأن أهم أولويات الانسان هو الأمن، فيكون خطابها دائماً مقايضة حرية الناس وحكم نفسها بنفسها وأمنها الغذائي والمائي والتعليمي والصحي بأمنها الشرطي، وتقدم دائما خطاب يظهر الحرية كنقيض للأمن ويظهر حكم الشعب لنفسه كرديف للفوضى، ويخوف المستبد الناس من تجربة حكم أنفسهم بالتلاعب باحتياجاتهم الرئيسية وأولوياتهم الأساسية فيهرع الناس إلى الاستبداد ليس حب أو ثقة بالمستبد ولكن لحماية حاجياتهم الأساسية.
تدرك الأنظمة المستبدة أن وحدة المجتمعات أكبر خطر يهدد استبدادها وحكمها فتعمل منذ اليوم الأول لوصولها للسلطة إلى تقسيم المجتمعات بشكل رأسي من أعلى الهرم إلى القاع على أساس الدين أو العرق أو اللغة ويقدم المستبد نفسه باعتباره نقطة الاتفاق التي تحمي الجميع من الجميع، وإذا ما كانت المجتمعات غير متنوعة في الدين واللغة والعرق يعمد إلى تقسيمها على أساس موالي صاحب حظوة ومعارض مهمش ومهشم.
تدرك الأنظمة المستبدة أن أخطر من يهدد استمراريتها في الحكم النخب السياسية البرامجية الناضجة التي تملك رؤية التغيير، فتعمد إلى أسلوب الاستمالة لبعض هذه النخب حتى تفقد الشعوب الثقة بمثل تلك الأصوات وتعمد على تهميش وتهشيم الجزء الآخر من النخب العصية على الاستمالة والجذب، من خلال الحصار المدني الناعم حتى تبتعد عنها الجماهير.
في الحالات المتقدمة من مقاومة الاستبداد تعمد الأنظمة الى إدارة حالة القمع المتوحش، فتبطش بعنف في القوة المعارضة وتتجاوز كل الخطوط الحمراء في التعامل الآدمي في التنكيل ومصادرة الحريات وهذا السلوك يكون دائماً في مراحل متأخرة في التعامل مع المعارضات وعندما تصبح المعارضات مؤثرة في خطاب الشارع.
تعمد الأنظمة المستبدة إلى الحصول على شرعية الإنجاز من خلال تحسين حياة الناس الاقتصادية فهي تدرك أن الشيء الذي يجعل الشعوب تخرج في وجه الاستبداد قرقعة البطون الجائعة، والبحث عن الرغيف والعمل، فتعمد هذه الأنظمة على مصادرة الحريات وحكم الشعب مقابل ما توفره من تحسن في الوضع الاقتصادي، فتعمد الأنظمة المستبدة الى أسلوب الدول الريعية في إدارة الدولة، فتقدم الخدمات وتقدم الامتيازات وتوسع عمليات التوظيف داخل أجهزة الدولة وتضخمها من غير حاجة لها، وتنشئ مجموعة من دوائر الانتفاع للوجهاء والقيادات الاجتماعية، فالنظام الريعي يطيل عمر الأنظمة المستبدة إلى أطول فترة ممكنة ولكنه الوصفة السحرية لانهيار الدول في المستقبل البعيد وانهيار الاستبداد.
إذا ما فهمنا كيف يعمل الاستبداد وكيف يكون سلوكه السياسي نستطيع أن نحدد الطريق التي نبطل بها مفعول تلك الوسائل وننزع مبرراته الداخلية والخارجية التي يحكم بها سيطرته على الحكم، الاستبداد مثل المرض الخبيث لا بد من معرفة طبيعته وآلية عمله حتى تستطيع تفكيك شيفرته الداخلية والتخلص منه وإبطال مفعوله.