مع اندلاع الحرب الجديدة بين روسيا وأوكرانيا في 25 فبراير/شباط الجاري اتخذ عدد من الدول الغربية، على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية، عقوبات صارمة على روسيا اقتصادية ورياضية وحتى دبلوماسية؛ مما فتح باب التساؤلات عن جدوى هذه العقوبات، وهل بالفعل مثل هذه الإجراءات فعالة ويمكنها وقف حرب أو إسقاط نظام سياسي؟
وللإجابة عن هذا التساؤل لابدَّ من العودة إلى تاريخ هذه العقوبات والوقوف على الحالات المشابهة للأزمة الأوكرانية- الروسية التي كشفت أن استخدام العقوبات الاقتصادية لتضييق الخناق على الخصوم في الحروب ليس بالأمر الجديد.
فقد فرض نابليون في أوائل القرن التاسع عشر حظراً غير فعَّال على الصادرات البريطانية، كما شهدت الحرب العالمية الأولى سعياً من كلا جانبي الحرب إلى تجويع الخصم لإجباره على الخضوع.
لكن منذ عام 1945، تزايد استعمال العقوبات الاقتصادية وسيلةً لمحاولة إجبار البلدان التي تقع عليها العقوبات على تغيير مواقفها السياسية أو حتى إزاحة أنظمتها الحاكمة.
كشفت دراسة أجراها مجموعة من الأكاديميين الألمان عن أكثر من 1400 حالة منذ الحرب العالمية الثانية هُدِّدت فيها دول بفرض عقوبات عليها أو وقعت بالفعل تحت عقوبات اقتصادية، بحسب تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
هل تنجح هذه المرة العقوبات مع روسيا؟
وليس من المستغرب أن التقرير الصادر عن مركز Ifo للأبحاث وجدَ أن العقوبات كانت أنجح كلما اشتد الضرر اللاحق بالاقتصاد الذي وقعت عليه هذه العقوبات.
وأشارت الدراسة إلى أن مستويات المعيشة في الدول المُعاقبة تنخفض في المتوسط بنسبة 4% في أول عامين من الإجراءات التقييدية، لكن هذا التراجع المُجمل يُخفي في طياته تأثيرات أخرى عديدة.
يقول آدم سلاتر، الخبير الاقتصادي في شركة “أكسفورد إيكونوميكس” الاستشارية، إن العقوبات المفروضة على روسيا بين عامي 2014 و2018 خفَّضت الناتج المحلي الإجمالي بنحو 1.2 %، لكن العقوبات “يرجح أن يكون لها تأثير أشد هذه المرة”؛ لأن الغرب عمد إلى تغليظها. وتذهب “التوقعات المنطقية إلى أن الاقتصاد الروسي قد يعاني تراجعاً بنسبة 4 إلى 6% من الناتج المحلي الإجمالي قياساً إلى الوضع قبل الأزمة”.
ومع ذلك، فإن إيذاء بلدٍ ما اقتصادياً يختلف عن إجباره على تغيير سياسته أو تغيير نظامه الحاكم. يقول جيريمي غرينستوك، سفير بريطانيا لدى الأمم المتحدة: “إذا كنت تريد الضغط على حكومةٍ ما، فلا توجد خيارات أخرى [سوى العقوبات] بين الإنذار الخطابي والعمل العسكري. لكن مآلات ذلك في الحالات البارزة لدينا تشهد بأن النتائج المرجوة ليست مضمونة البلوغ دائماً”.
ويستدل غرينستوك بحالة كوبا، التي تخضع لعقوبات أمريكية منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي، حين احتدمت معارضة واشنطن لسيطرة نظام فيدل كاسترو الشيوعي على السلطة، ومنذ ذلك الحين فرضت قيوداً مشددة على تدفق البضائع إلى الجزيرة.
تذهب تقديرات الأمم المتحدة والحكومة الكوبية إلى أن هذه العقوبات أوقعت بالاقتصاد الكوبي خسائر بلغت 130 مليار دولار على مدى ستة عقود، لكن كريستوفر رودس، الأكاديمي في جامعة هارفارد، يلفت إلى أن النظام الحاكم في كوبا استخدم هذه العقوبات ذريعةً للتنصُّل من مسؤوليته عن مشكلات البلاد.
ومع ذلك، يمكن القول إن العقوبات كان لها تأثير واسع النطاق في دول أخرى، مثل فنزويلا، فقد كانت خسائرها أشد بكثير من خسائر كوبا. وقد شهد اقتصاد فنزويلا أول نمو له منذ سبع سنوات في عام 2021، بعد مدةٍ شهدت انخفاض الإنتاج بنسبة 75% وانهيار عملة البلاد. لكن على شدة العقوبات الاقتصادية المفروضة على فنزويلا وما دفعت إليه من هجرات جماعية من البلاد، فإنها لم تكن كافية أيضاً لتغيير النظام الحاكم.
مصير بعض الدول التي فُرضت عليها عقوبات
إيران مثالٌ بارز آخر على مواجهة العقوبات، فقد فرضت الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية عليها منذ أكثر من 40 عاماً حين اقتحم طلاب الثورة الإيرانية سفارة الولايات المتحدة في طهران عام 1979.
وزادت هذه العقوبات وطأة في السنوات الأخيرة بدعمٍ من الأمم المتحدة لعرقلة برنامج إيران النووي، كما شهد نظام العقوبات تشديداً ملحوظاً مع انسحاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي في عام 2018.
أدى التخفيف قصير الأمد للعقوبات على إيران إلى تحسنٍ لافت في اقتصادها عام 2016، إلا أن متوسط النمو الاقتصادي ضعيف منذ ذلك الحين. ومع كل ذلك، فإن إيران لم تبادر إلى التراجع، وتمسكت بإلغاء العقوبات قبل بدء المحادثات بشأن برنامجها النووي.
وكوريا الشمالية ليست أقل سوءاً، فهي واحدة من أفقر دول العالم، ويقل دخل الفرد فيها عن عُشر دخل نظيره في جارتها كوريا الجنوبية.
أصدرت الأمم المتحدة قراراً تلو آخر لمطالبة كوريا الشمالية بوقف برنامجها للأسلحة النووية، وفرضت في أثناء ذلك عقوبات تقيِّد التجارة وتلحق الخسائر بأفراد مرتبطين بالجيش، غير أن ذلك لم يدفع كوريا الشمالية في أي وقت إلى نزع سلاحها أو التوقف عن تطويره.
وعلى النحو ذاته، فإن السلاح الذي تتجه الولايات المتحدة الآن إلى استخدامه ضد روسيا، أي الاستيلاء على أرصدة الاحتياطي المالي في الخارج، وإن تسبب في ضائقة اقتصادية وإنسانية شديدة الوطأة، إلا أنه لم ينجح حتى الآن مع طالبان في أفغانستان.
يقول اللورد ميغناد ديساي: “تهمين الولايات المتحدة هيمنة شاملة على الأدوات المالية الدولية، فهي تسيطر على صندوق النقد الدولي. وقد أتاح لها ذلك الاستيلاء على احتياطيات النقد الأجنبي لأفغانستان وتجويع البلاد لمعاقبة طالبان على إهانتها، لكن هل ستنجح هذه الخطوة الآن في التضييق على بوتين؟”.
جنوب إفريقيا نموذج للنجاح
على خلاف ذلك، فإن جنوب إفريقيا مثالٌ على حالة أخرى كانت فيها العقوبات فعالة، وقد يستبشر بها بعض أولئك الذين يعتقدون أن الغرب يمكن أن ينتصر في معركته على بوتين بوسائل غير عسكرية. وسبق أن قال نيلسون مانديلا إن الحظر التجاري في ثمانينيات القرن الماضي كان “بلا شك” سبباً بارزاً للتعجيل بزوال نظام الفصل العنصري.
ومع ذلك، فإننا إذا نظرنا من جهة العقوبات الدولية وأثرها، سنجد أن جنوب إفريقيا تختلف عن كوبا وإيران وفنزويلا وكوريا الشمالية في شيئين، أولهما أن نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا كان منبوذاً على الساحة الدولية بحلول أواخر ثمانينيات القرن الماضي، حتى إن دولاً مثل بريطانيا والولايات المتحدة أصدرت قوانين لتقييد التجارة معه.
ثانيهما، أن العزلة الاقتصادية لجنوب إفريقيا عزَّزتها مقاطعة رياضية وثقافية كانت من الشدة بحيث برهنت لسكان جنوب إفريقيا أنهم يعيشون في دولة منبوذة.
يقول هولغر شميدنغ، الخبير الاقتصادي في بنك بيرنبرغ، إن “حتى العقوبات الاقتصادية الشديدة قد تفشل في إجبار بوتين على التراجع. فقد برهنت إيران وكوريا الشمالية على قدرة الأنظمة المستبدة الوحشية على الاستمرار في الحكم لمددٍ طويلة رغم شدة العقوبات المفروضة عليها”.
ومع ذلك، يشير شميدنغ إلى أن “كثيراً من الروس لديهم روابط وثيقة بالعالم الغربي وأواصر عائلية قوية بأوكرانيا. وتنتشر في روسيا حالياً الأخبار بأن سبب العقوبات هو غزو بوتين الوحشي لأوكرانيا، لا سيما أن الجيش الروسي يتكبد خسائر كبيرة يصعب إخفاؤها”.
في الماضي، ساعدت روسيا دولاً أخرى في التخفيف من أثر العقوبات المفروضة عليها، والآن فإن قدرة بوتين على تحمُّل العقوبات الاقتصادية تعتمد على عدد الأصدقاء الموثوق بهم ممن لا يزال بإمكانه حشدهم، وأهم من ذلك، ما إذا كانت نخبة الحكم في البلاد ستتمسك بولائها له أم لا.