منذ انطلاقتها قبل أكثر من نصف قرن، تولي مجلة المجتمع اهتماما خاصا بأحوال المسلمين، ينبع من رسالتها كونها مجلة المسلمين حول العالم.
وإذ نوكد على هذه الرسالة فإننا نسعد أن نكون في ضيافة رئيس الرابطة الإسلامية والثقافية في رومانيا ومدير مؤسسة “طيبة” الخيرية د. أبوالعلاء الغيثي، ومع هذا الحوار الذي نرجو من خلاله أن نقدم للقارئ صورة كاملة عن واقع مسلمي رومانيا وكيف ومتى وصلها الإسلام.
-مرحبا بكم د.أبوالعلاء وشاكرين لكم حفاوة الاستقبال وكرم الضيافة.
مرحبا بك ومرحبا بمجلة المجتمع التي ترَعْرَعْنا عليها منذ صغرنا لاهتمامها بالمسلمين حول العالم.
- معرفة الواقع واستشراف المستقبل ينطلق من الإلمام بالتاريخ ومحطاته، وحتى نتعرف على الصورة الكاملة لمسلمي رومانيا نريد سردا للحكاية من أولها.. فكيف ومتى وصل الإسلام إلى رومانيا؟
الحقيقة من مميزات الإسلام أنه يبدأ وينتشر بالدعوة الفردية، وفي رومانيا كما تعرف كانت الجيوش تصطحب معها دعاة لتثبيت الجنود، وكان منهم من يقوم بجانب هذه المهمة بدور آخر وهو تعريف أهالي البلاد بالإسلام.
وظهر ذلك جليا لدى اثنين من القادة الأتراك السلاجقة خلال الفتوحات الإسلامية لرومانيا (661 هجري- 1262م)، وهما الأمير “عز الدين” الذي فتح منطقة دوبروجيا، ثم ترانسيلفانيا ثم تتابعت الفتوحات وجاء الأمير “صاري صالتق” الذي وصل قرب منطقة باباداغ، فهذان القائدان -بجانب مهمتهما العسكرية- اهتما بنشر الإسلام في هذه البلاد؛ حيث انتشر العلماء والدعاة الذين كانوا بصحبة الجيوش يعرفون الناس بالإسلام؛ فتأثر عدد كبير ودخلوا في الإسلام.
توزع المسلمون على أغلب المدن ويتركزون بكثرة في الساحل الشرقي لرومانيا في منطقة دوبروجيا
وحتى بعد استقرار الجيوش وانتهاء مهمتها العسكرية تواصلت الجهود الفردية للتعريف بالإسلام الذي انتشر في الأراضي الرومانية، وكانت تأتي قوافل دعوية وحتى في مدينة باباداغ وهي مدينة أثرية رائعة وفيها مسجد تاريخي وضريح يعتبر مزارا، ويحرص السياسيون الأتراك على زيارته عند زيارتهم رومانيا تمجيدا لهذه الجهود القديمة في نشر الإسلام.
وقُدِّرت أعداد المسلمين حينها بأكثر من مليون مسلم، لكن بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية تراجعت أعداد المسلمين إلى 600 ألف ثم 260 ألفا، ثم أقل من ذلك حيث اضطر كثير من المسلمين للهجرة إلى تركيا بعد أن أصبحت رومانيا ضمن النظام الشيوعي، وبعد سقوطه واستقرار الأمور أتاح الدستور الجديد للمسلمين حرية الاعتقاد وحرية ممارسة الشعائر الدينية وتعتبر أعياد المسلمين عطلة رسمية.
– ما تقديرات المسلمين في رومانيا؟ وكيف يتم حسابها تقريبيا؟
فيما يخص أعداد المسلمين، هناك تفاوت، فوفق الإحصاء الرسمي عدد المسلمين المسجلين رسميا بالتبعية لدار الإفتاء هم 65 ألف، وهذا يتم من خلال طَرْق الأبواب وسؤال أصحاب البيت من المسلمين إن كانوا يوافقون على أن يكونوا تابعين لدار الإفتاء؟ ومن يوافق فقط هم من يتم تسجيلهم ضمن عدد المسلمين، وطبعا هذا ليس تقديرا حقيقيا لأن هناك من يتخوف من أن ينبني على هذه الموافقة تصنيف له مثلا، وهناك المسلمون الوافدون، وهم كثيرون ومنهم لا يعرفون دار الإفتاء وبالتالي لا يوافقون على التبعية لها.
أما في تقديراتنا فأعداد المسلمين تتجاوز 150 ألفا؛ فهناك مسلمون رومان يقيمون في عدة بلاد عربية؛ في مصر مثلا نحو 5 آلاف وكذلك في الأردن وغيرهما من الدول، وهناك كثير من المسلمين العرب قدموا واستقروا هنا وتجنسوا أيضا بالجنسية الرومانية.
– ماذا عن خريطة توزيع المسلمين جغرافيا في رومانيا؟
يتوزع المسلمون على أغلب المدن، ويتركزون بكثرة في الساحل الشرقي لرومانيا في منطقة دوبروجيا التي تشمل عدة مدن، ولها بعد تاريخي حيث بدأ وصول الإسلام من هناك؛ فمثلا نسبة كبيرة من سكان مدينة دوبروجيا مسلمون، وكذلك مدينة كونستانتسا، وأوفيديو، ومنغاليا، وتيميشوارا، وترانسيلفانيا ومجيدية، هذا بالإضافة إلى أن نسبة لا بأس بها من المسلمين يقيمون في العاصمة بوخارست خاصة من الوافدين، أما عن عرقياتهم فنحن نتحدث عن مسلمين تتار وأتراك ورومان وألبان وعرب.
– هل هناك تواصل بين المكونات الإسلامية من تتار أتراك ورومان وألبان وعرب؟ وما شكل هذا التواصل؟
عندما جئنا إلى رومانيا عام 1987 لدراسة الطب في أواخر العهد الشيوعي، وجدنا القوميات منطوية على نفسها، فتعاهدنا أن نتكاتف في العمل من أجل الإسلام حتى لا ننحرف أخلاقيا، وأيضا يكون لنا رسالة في هذه البلاد تنصف ديننا؛ فكنا نقوم بعمل ما يشبه قوافل دعوية للقرى لكن كانت في الخفاء وغير معلنة؛ إذ كان ممنوعا وقتها نشر أي أديان، وحقيقة الناس كانوا يرحبون بنا، ويحتووننا ولم نجد منهم صدا لنشاطاتنا.
ومع الاستقرار واتساع النشاط والعمل الإسلامي في ظل الحريات التي يكفلها الدستور أصبحت لنا مؤسسات وجهود معلنة خدمة للمسلمين وللمجتمع ككل، حتى أننا أرسلنا طلابا رومانيين لدراسة العلوم الشرعية في تركيا ومصر والسعودية والسودان، وبعد عودتهم أصبحوا هم يديرون ويقومون على العمل الإسلامي.
فنستطيع أن نقول إننا ورّثنا العمل لأبناء البلد؛ لأن بعض الطلاب أو التجار العرب قد يكون بقاؤهم مؤقتا، فإذا عادوا لبلادهم يكون أبناء رومانيا على وعي ومقدرة للعمل من أجل الإسلام.
نوجه الشكر لدولة الكويت وكل مؤسساتها ومحسنيها لدورهم في مساندة مسلمي أوكرانيا
وهؤلاء الطلاب الرومان الذين درسوا بالخارج والطلاب العرب هنا يتعاونون معا في القرى ومدن كثيرة في الأنشطة التعريفية والتوعوية وإفطار صائم، وطبعا الأخوات يشاركن في أغلب الأنشطة أيضا، وفيما يخص تنظيم الأنشطة لدينا مركزان في مدينة كونستانتسا بدأنا بالعمل المشترك في الأنشطة للعرب والتتار، لكن وجدنا أن الاستفادة ليست بالمستوى المأمول مع اختلاف اللغة والعادات، فقسمنا لكل منهم أنشطة مستقلة؛ فكانت النتيجة أفضل.
– ماذا عن المراكز والمؤسسات الإسلامية والمساجد؟
الدستور الروماني يتيح لنا إنشاء النقابات والمؤسسات الثقافية الإسلامية، وبفضل الله لدينا هنا في رومانيا أكثر من 10 مؤسسات تثقيفية إسلامية وليست دينية بالمعنى الصريح، نمارس فيها الأنشطة الإسلامية والتثقيفية الإسلامية، لدينا في العاصمة بوخارست 4 مراكز إسلامية، وهناك مركزان لإخوة عرب، و3 يديرها أتراك، وفي مدينة كونستانتسا يوجد مركزان لنا في الرابطة الإسلامية، وهناك أيضا دار الإفتاء الرومانية وعلاقتنا بها جيدة وهي يتبع لها نحو 70 مسجدا، ونحن نتعاون مع دار الإفتاء في أنشطة كثيرة مثل توزيع الأضاحي وإفطارات رمضان وكفالة الأيتام وتنظيم الأعياد، وبلا شك نحن حريصون على التعاون مع دار الإفتاء ودعمها ونلتزم بتوجهاتها التي هي تعبير عن توجهات الدولة الرومانية، واجبنا أن نحترمها حرصا على مصالح البلاد التي توفر لنا كامل الحرية.
– عدم القدرة على كفالة الدعاة والأئمة بشكل كامل يحرم الداعية من التفرغ الدعوي وبالتالي يكون هناك فراغ في العمل الدعوي أحيانا كثيرة.. كيف تتعاملون مع هذه الأمة؟
صراحة هذه المشكلة في دول كثيرة ومنها رومانيا؛ فالداعية موجود لكن الراتب الذي نعطيه إياه لا يكفي كل متطلبات الحياة، وبالتالي يكون مضطرا للبحث عن عمل آخر بجانب الدعوة كي يتمكن من سد احتياجاته، ونحن في المؤسسات الإسلامية ليست لدينا المقدرة على توفير الرواتب المناسبة للدعاة، نحن حريصون على إيجاد وتأهيل الدعاة المتخصصين المتفرغين، لكن العامل المادي يبقى هو العائق، ولذلك بدأنا مؤخرا في البحث عن إيجاد استثمارات تساهم في تغطية تكاليف وتشغيل المؤسسات الإسلامية ورواتب الدعاة.
ولدينا المشكلة نفسها في إيجارات المراكز الإسلامية، ونحن مؤخرا تمكنا بفضل الله ثم بفضل الدعم الكويتي من شراء مركز إسلامي ضخم مكون من 6 طوابق، حيث قدمنا تقريرا كاملا عن تفاصيل المشروع وتكلفته إلى مؤسسة الرحمة العالمية بالكويت ومن خلالها تبرعت أخت كويتية محسنة بقيمة شراء المركز كاملة، ونحن من هنا نوجه الشكر لدولة الكويت وكل مؤسساتها ومحسنيها لدورهم في مساندة مسلمي أوكرانيا، ولا تتخيل كيف كانت فرحة المسلمين هنا بهذه الخطوة.
صورة المسلمين في الإعلام الروماني إيجابية ولدينا نماذج مسلمة حصلت على أعلى أوسمة في الدولة
– الفعاليات العامة مثلا الأعياد وشهر ورمضان والجمعة.. كيف ينظر لها الشعب الروماني؟
الشعب الروماني من أفضل شعوب أوروبا في التعايش مع الإسلام، نحن كنا نصلي الأعياد بالمساجد لسنوات، لكن قررنا أن نخوض تجربة الصلاة في الأماكن المفتوحة، وهنا صراحة وجدنا كل التعاون من الجهات الرسمية من تجهيز الملعب وتنظيم المرور، حتى وسائل الإعلام الرومانية تنقل صلاة العيد على الهواء مباشرة بحضور نحو 5 آلاف مصل في العاصمة بوخارست.
– هذه الأجواء الإيجابية تدفعنا للسؤال عن صورة الإسلام والمسلمين في الإعلام الروماني.. كيف يتم تقديمها؟
صورة المسلمين في الإعلام الروماني إيجابية جدا؛ وذلك لعدة عوامل منها أننا نشارك في الأساس في وسائل الإعلام من خلال اللقاءات، كما لدينا أكثر من 300 حلقة تلفزيونية، هذا بالإضافة إلى كثرة النماذج المشرفة من المسلمين في المجتمع الروماني من مسؤولين قدموا صورة إيجابية لأعمالهم في خدمة المجتمع، ولدينا أطباء مسلمون لهم مكانتهم؛ فرئيس خلية الأزمة في مواجهة كورونا مسلم، استطاع عمل نقلة نوعية وأدخل الإسعاف الطبي والإسعاف الطائر، وحفظ له الشعب الروماني هذا الدور، ولدينا نماذج مسلمة حصلت على أعلى أوسمة الدولة، بجانب الموظفين المسلمين الأمناء والطلاب المسلمين الذين قدموا صورة إيجابية للإسلام من خلال تعايشهم وتعاملاتهم اليومية مع زملائهم، وكذلك الطالبات المسلمات، وحتى المرأة الرومانية عندما تتزوج مسلما وتجد المعاملة الحسنة تخبر بهذا صديقاتها وأقاربها.
أضف إلى هذا دور التجار العرب في إنعاش الاقتصاد وتوفير فرص عمل للآلاف من أبناء الشعب الروماني، حتى مع وقوع أزمة الرسوم المسيئة في فرنسا كان هناك توجه واضح في رومانيا بعدم الخوض في هذه الأمور؛ فنحن مجتمع مستقر وعلاقتنا بالمسلمين في بلادنا جيدة وهم عنصر أساسي في المجتمع.
وبالتالي أدرك الشعب الروماني سماحة الإسلام من خلال النماذج العملية، وأن كل الدعاية المغلوطة حول الإسلام الهدف منها تشويه صورة هذا الدين.