1- مقتل يزدجرد وانهيار الدولة الساسانية:
في 23 رمضان 31هـ/ 10 مايو 652م، انهارت الإمبراطورية الساسانية تماماً في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، بعد مقتل يزدجرد بن شهريار آخر شواهين الفرس، وكانت أغلب بلاده قد افتُتحت على يد المسلمين قبل ذلك، ويزدجرد بن شهريار هو آخر ملوك الدولة الساسانية وحفيد كسرى الثاني مؤسس الدولة وملكها الأول، ونجا يزدجرد في طفولته من سيف عمه الذي قتل إخوته وأبناءهم، وتولى العرش وهو صغير فتأثر بأوصياء العرش من حوله؛ لكنه حكم قرابة 20 عاماً، وانتصر يزدجرد وجيشه الساساني على المسلمين في معركة الجسر عام 634م، لكن القائد المسلم سعد بن أبي وقاص أعاد ترتيب جيشه وانتصر انتصاراً هائلاً في معركة القادسية سنة 637م، وبعد ذلك حاصر المدائن حتى سقطت، وهرب يزدجرد شرقًا تاركًا عاصمته وخزائنه التي دعمت التمدد الإسلامي شرقاً، خاصة في معركة نهاوند سنة 21هـ/ 642م، التي اتخذها يزدجرد عاصمة جديدة بعد هروبه من المدائن، ولاحقاً، هرب يزدجرد إلى المحافظة الشمالية خوزستان، وبعد ذلك بسنوات تم اغتيال الملك يزدجرد الثالث على يد طحَّان في مَرو عام 651م، وبذلك انتهت الإمبراطورية الساسانية التي استمرت أكثر من 4 قرون في بلاد فارس وما حولها.
يصف ابن كثير الأيام الأخيرة ليزدجرد، فيقول: قال ابن إسحاق: هرب يزدجرد من كرمان في جماعة يسيرة إلى مَرو، فسأل من بعض أهلها مالًا فمنعوه وخافوه على أنفسهم، فبعثوا إلى الترك يستفزونهم عليه، فأتوه فقتلوا أصحابه وهرب هو حتى أتى منزل رجلٍ ينقر الأرحية على شط “طحَّان”، فأوى إليه ليلًا، فلما نام قتله، وقال المدائني: لما هرب بعد قتل أصحابه انطلق ماشيًا عليه تاجه ومنطقته وسيفه، فانتهى إلى منزل هذا الرجل الطحَّان، فجلس عنده فاستغفله وقتله وأخذ ما كان عليه، وجاءت الترك في طلبه فوجدوه وقد قتله، وأخذ حاصله فقتلوا ذلك الرجل وأهل بيته وأخذوا ما كان مع كسرى.
2- ولادة أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية:
في 23 رمضان 220هـ/ 20 سبتمبر 835م، ولد أحمد بن طولون، مؤسس الدولة الطولونية، وتعود جذور أحمد بن طولون إلى أصول تركية، وكان أبوه من مماليك “نوح بن أسد” والي “بخارى”، فأعتقه لِمَا رأى فيه من قدرة وكفاءة، ثم أرسله إلى الخليفة المأمون، فأعجب به، وألحقه ببلاط الخلافة، وتدرَّج في المناصب العسكرية حتى صار رئيسًا لحرس الخليفة، وفي مدينة “بغداد” عاصمة دولة الخلافة وُلِد أحمد بن طولون في 23 رمضان 220هـ/ 20 سبتمبر 835م، وعُني به أبوه عناية فائقة، فعلمه الفنون العسكرية، وتلقى الفقه والحديث، وتردد على حلقات العلماء ينهل منها، ورُزق حسن الصوت في تلاوة القرآن الكريم، ثم رحل إلى طرسوس بعد أن تولى بعض أمورها بناء على رغبته، ليكون على مقربة من علمائها الذين اشتهروا بالفقه والحديث والتفسير، وبعد رجوعه صار موضع ثقة الخلفاء العباسيين لعلمه وشجاعته، والتحق بخدمة الخليفة “المستعين بالله” في 248 – 252هـ/ 862 – 866م، وصار موضع ثقته وتقديره، وكان من عادة الولاة الكبار، الذين يعينهم الخليفة للأقاليم الخاضعة له أن يبقوا في عاصمة الخلافة، لينعموا بالجاه والسلطان، والقرب من مناطق السيادة والنفوذ، وفي الوقت نفسه ينيبون عنهم في حكم تلك الولايات من يثقون فيهم من أتباعهم وأقاربهم، ويجدون فيهم المهارة والكفاءة، وكانت مصر في تلك الفترة تحت ولاية القائد التركي “باكباك” زوج أم أحمد بن طولون، فأناب عنه وفقًا لهذه العادة ابن زوجته “أحمد” في حكم مصر، وأمدَّه بجيش كبير دخل مصر في 23 رمضان 254هـ/ 16 سبتمبر 868م، وما إن نزل مصر حتى واجهته مصاعب عديدة ومشكلات مستعصية، وشغله أصحاب المصالح بإشعال ثورات تصرفه عما جاء من أجله، لكن ابن طولون لم يكن كمن سبقه من الولاة، فسرعان ما اشتد نفوذه، وأخمد الفتن التي اشتعلت بكل حزم، وأجبر ولاة الأقاليم على الرضوخ له وتنفيذ أوامره، وكانوا من قبل يستهينون بالولاة، ولا يعبئون بقراراتهم، استخفافًا بهم، ويعملون على ما يحلو لهم.
وازدادت قدم ابن طولون رسوخًا، وقويَ سلطانه بعد أن أسندت ولاية مصر إلى “يارجوخ” والد زوجة ابن طولون، فعمل على تثبيت صهره، وزاده نفوذًا بأن أضاف إليه حكم الإسكندرية، ولم يكتفِ ابن طولون بما حقق من نفوذ في مصر، فتطلع إلى أن تكون أعمال الخراج في يده، وكان عامل الخراج يُعيَّن من قِبَل الخليفة العباسي، ولم يكن لوالي مصر سلطان عليه، غير أن أحمد بن طولون نجح في أن يستصدر من الخليفة “المعتمد على الله” قرارًا بأن يضيف إليه أعمال الخراج، فجمع بهذا بين السلطتين المالية والسياسية، وقويت شوكته، وعظم سلطانه، وكان أول عمل قام به أن ألغى المكوس والضرائب التي أثقل بها عامل الخراج السابق كاهل الشعب.
مظاهر الحضارة
كان أحمد بن طولون رجل دولة من الطراز الأول، فعُنيَ بشؤون دولته، وما يتصل بها من مناحي الحياة، ولم تشغله طموحاته في التوسع وزيادة رقعة دولته عن جوانب الإصلاح والعناية بما يحقق الحياة الكريمة لرعيته، ولذا شملت إصلاحاته وإسهاماته شؤون دولته المختلفة، وكان أول ما عُني به إنشاء عاصمة جديدة لدولته شمالي “الفسطاط” سنة (256هـ/ 870م) عُرِفت بـ”القطائع”، وقد بناها على غرار نظام مدينة “سامراء” عاصمة الخلافة العباسية، واختار مكانها على جبل “يشكر” بين الفسطاط وتلال المقطم، وبنى بها قصرًا للإمارة، وجعل أمامه ميدانًا فسيحًا يستعرض فيه جيوشه الجرارة، ويطمئن على تسليحها وإعدادها، ثم اختطّ حول القصر ثكنات حاشيته وقواده وجنوده، وجعل لكل فئة من جنوده قطعة خاصة بهم، وكذلك فعل مع أرباب الحرف والصناعات، ومن هنا جاءت تسمية المدينة الجديدة بـ”القطائع”، وأنشأ في وسط المدينة مسجده المعروف باسمه إلى اليوم، وهو من أكبر المساجد، وتبلغ سعته 8487 مترًا مربعًا، ولا يزال شاهدًا على ما بلغته الدولة الطولونية من رقي وازدهار في فنون العمارة، ويعد من أقدم الأبنية الإسلامية التي بقيت على ما كانت عليه، واشتهر المسجد بمئذنته الملوية التي تشبه مئذنة مسجد سامراء، وقد انتهى ابن طولون من بنائه سنة 265هـ/ 879م، وبلغ من عنايته به أن عين له طبيبًا خاصًّا، وجعل به خزانة بها بعض الأدوية والأشربة لإسعاف المصلين من رواد المسجد في الحالات الطارئة.
وفاته
بعد عقد صلح بين ابن طولون والموفق، وحلول الصلح بينهما، زحف ابن طولون ليقمع الفتنة التي شبت في طرسوس، فلما وصل إلى هناك، وكان الوقت شتاء والثلج كثيرًا، لم يعُقْه ذلك عن نصب المجانيق على سور طرسوس لإخماد الثورة، لكنه مرض ولم يستطع الاستمرار في الحصار، فأسرع بالعودة إلى مصر، حيث لقي ربه في 10 ذي القعدة 270هـ/ 10 مايو 883م.