في كتابي “الإستراتيجية الصهيونية والتطبيع الجديد من الاختراق إلى الاحتراق”، خصصت مبحثاً عن العلماء والحركات و”صفقة القرن”، وفصلت في أسباب استهداف المشروع الصهيوني والتطبيع الجديد، لمشروع العلماء والفكر الوسطي، ولماذا بدؤوا في المناجزة، بتصفية قوى الأمة والعلماء أولاً قبل التصفية الكاملة للمقاومة وفلسطين؟
وأكتب هذا المقال من أجل الذود عن الأمة وإبراز قوة المشروع النبوي الإستراتيجي الذي نهل منه العالم المجاهد يوسف القرضاوي، يرحمه الله، فأسس به اتحاداً عالمياً يدافع عن الإسلام والمسلمين وفلسطين.
“الجيتو” مصدر الصهيونية
يظن البعض أن مشروع “صفقة القرن” “واتفاق أبراهام” سيئ الذكر غايته استهداف فلسطين والقدس والمقاومة، وتهويد الضفة والمسجد الأقصى وبناء الهيكل والمعبد المزعوم، لاستكمال الدولة اليهودية المزيفة، وكانت بعض المحاضرات والكتب تحصر أهداف الحركة الصهيونية في مشروع يحقق تصفية فلسطين والمقاومة واحتلال أرض والقضاء على الشعب الفلسطيني، لكن السابر لأغوار الصهيونية وصفقات “بلفور” و”القرن” و”أبراهام” سيكتشف أن الغايات الصهيونية كانت أعمق من احتلال أرض وتحويل الصراع بين عدو صهيوني وأرباب حق هم الشعب الفلسطيني.
إذا فقهنا كيف خرجت الصهيونية، ولماذا خرجت؛ سنفقه ماذا تريد.
خرجت الصهيونية من أعماق ما يسمى “الجيتو”؛ وهي الأطم والجدران “والملاحات” التي كانت مأوى اليهودية قبل المشروع الصهيوني، “الجيتو” هي حارات في أوروبا ظهرت أولاً ثم في الدول الإسلامية، ضيقة مسيجة بجدران يحصر اليهود داخلها، مفعمة بالقاذورات والأزبال التي يتركها اليهود.
داخل هذه الحارات التي كان يسكنها اليهود -قبل أن يؤسسوا دولة بعنف واغتصاب- تأسست النظرة اليهودية إلى إنشاء الدولة اليهودية المزيفة، داخل هذه الأطم تأسست الرؤية الصهيونية نحو احتلال العالم واستهداف الإسلام والمسلمين، داخل هذه الحصون الضيقة برزت “القسوة القلبية اليهودية الحاقدة” على الأمة الإسلامية، وحقدها أكبر على مشروع المنهاج النبوي الذي هدم الإفساد الأول لليهود زمن خيبر، وحقدهم على العلماء الحافظين لهذا الإرث والسر النبوي الذي سيغير العالم إلى عمران أخوي.
داخل هذه الدور التوراتية التلمودية الدموية ظهر الحقد الدفين للمسجد الصانع للرجال وجيل التحرير المطهر للدنس والاستكبار والعلو، ظهر التلمود الذي يخفي انتقامه منذ قرون للمشروع النبوي الذي حقق انكساراً كبيراً لمشروع يهود بني قريظة وخيبر في عهد الوعد الأول زمن الصحابة رضي الله عنهم المذكور في قوله الله تعالى: (فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً) (الإسراء: 5).
مشروعهم ومشروعنا
من بين غياهب هذه السياجات والجدران والحارات اليهودية، رصد المؤرخون خروج أشد استكبار عالمي يحمل في طياته وكتبه وتوراته رؤية شريرة خبيثة، تحقد على الأمة، وتسعى إلى تصفية المشروع النبوي وحفاظه وعلمائه من الأرض، خوفاً من بروز جديد للمنهاج النبوي، الذي قد يعيد الجيل النبوي، فيخرج، فينكل باليهود والعلو مرة ثانية؛ (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً) (الإسراء: 7)، كما نكل بهم في الوعد الأول، زمن الإفساد الأول، زمن ظهور جيل عباد الله مع الصحابة رضي الله عنهم صحبة المصحوب النبي صلى الله عليه وسلم؛ (فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً).
خشية “أرباب الجيتو والتلمود” اليوم هو نشوء جيل جديد، يحقق الوعد الثاني الذي وعد به القرآن لفتح الأمة والمسجد الأقصى وتصفية العلو الصهيوني.
من عمق العقل اليهودي في “الجيتو” تأسس المشروع الصهيوني، لمواجهة مشروع المسجد وروح المسجد الذي صنع جيل الصلاح والإصلاح، لا جيل الغثائية والدروشة والتطبيع والاستكانة.
من هنا بدأت المعركة الإستراتيجية ضد الأمة وفلسطين، ولم تبدأ المواجهة بعد تأسيس الصهيونية في مؤتمر بازل بقيادة تيودور هرتزل، الصهيوني اليهودي، ولم تبدأ المعركة بغاية إخراج اليهود من “رمز الحارات” إلى “واقع دولة قوية” من أجل فقط احتلال أرض وتأسيس “إسرائيل”، كانت أبعاد صناع “الجيتو” أعمق.
المنهاج النبوي هدف اليهود
المسألة أبعد وأعمق في التخطيط، فلسطين كانت محطة بنزين بالنسبة لليهود الصهاينة من أجل تزويد قلوبهم بالأمل في الوعد المرغوب في هذه الأرض، فلسطين كانت محطة لتأجيج نفوسهم بالأساطير المتجذرة في هذه الأرض المقدسة، فلسطين شكلت مكاناً إستراتيجياً وسط الشعوب العربية والإسلامية لزرع إبرة اسمها الكيان الصهيوني، ليبدأ مشروع “الجيتو” بإفساد الأمة ومواجهة مشروع العلماء والإرث النبوي من هذا المكان، عينهم فيما خارج فلسطين وما في الأمة من سر، هو سر هدم مشروع عبدالله بن سبأ وبني قريظة زمن النبوة، ويمكن لمشروع النبوة تصفية بقايا الإفساد إن خرج مشروعنا مرة ثانية من دعوة إلى دولة قوية تقود الشعوب في اتحاد عربي إسلامي خالص.
إذن، فلسطين واحتلالها ليست هي الأساس في مشروع الفكر الصهيوني التلمودي، بقدر ما كان الهدف هو زرع مرض داخلنا اسمه “إسرائيل”، ليسري داخل الجسم وتدمير جسم الأمة والبحث عن المشروع والمنهاج النبوي في أحشائها ومساجدها لمنعه من الخروج إلى العالمية، فهو المهدد لزوال الأنظمة الاستبدادية العربية وزوال الكيان الصهيوني بعدها.
هي إذن معركة بين فكرين وخطين، بين فكر الخير والشر، بين فكر وعد الله ووعد اليهود، بين الحق والباطل، بين “الجيتو” والمسجد، بين المقاومة والاحتلال، بين الشعوب والتطبيع.
“صفقة القرن” وتجديد مشروع “الجيتو”
في “صفقة القرن” التي تم الإعلان عنها في 2017 من أجل استكمال احتلال القدس وتهويد فلسطين مع ترمب، ونتنياهو، رصدنا كيف بدأت الصفقة بتصفية قوى الأمة الإسلامية والحركات الإسلامية والمساجد والعلماء، في حين كان المفروض من الصفقة استهداف المقاومة الفلسطينية واستكمال الاحتلال، لكن المشروع الصهيوني بدأ بتصفية قوة أشد من القوة في فلسطين، بدؤوا بما وصى به “صناع الجيتو” والصهيونية، بمعنى استهداف المشروع النبوي والسر الذي يحافظ على المنهاج النبوي الذي يشكل فكراً وسطاً محرراً مغيراً مهدداً للاستعمار والاستكبار العالمي.
وهذا ما رصدته في كتابي “الإستراتيجية الصهيونية والتطبيع الجديد من الاختراق إلى الاحتراق”، ركزت على سؤال: لماذا بدأت “صفقة القرن” بتصفية الحركات الإسلامية والجمعيات الإسلامية في السعودية والإمارات والبحرين والخليج؟ لماذا استهدفوا العلماء بالقتل والإعدام والحصار في مصر والمغرب والإمارات والسعودية ومختلف الدول العربية والإسلامية؟
إن صناع “الجيتو” فقهوا أن القوة المستورة الخبيئة المخفية ليست التي في فلسطين (دون تهوين من المقاومة)، بل “المارد” في نظرهم هو داخل الشعوب العربية والإسلامية، خوفهم ليس من الإنسان، بل المشروع النبوي الذي في عمق قلوب العلماء والمساجد والجمعيات والحركات، الذي إذا خرج من دعوة إلى دولة، سيغير الكثير ويحرر الإنسان أولاً، ويسقط الأنظمة الاستبدادية العربية، ويزيل الكيان الصهيوني ويصنع جيوشاً وعقولاً ستنتظرها عقول “القسام” والمقاومة بشغف عند حدود لبنان والأردن وفلسطين ومصر.
هم يفقهون جيداً أن التحرير في التاريخ كان دائماً من خارج فلسطين، أي أن الأمة تتحرر بخطة ومشروع، ثم تتقوى وتسقط الحكام الخانعين، ثم تزحف إلى تحرير ثان، هو تحرير فلسطين، وهو ما رصدناه مع تحرير عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وصلاح الدين، من حررا الأمة أولاً، ثم زحفا بالجيوش والشعوب إلى فلسطين لتحريرها، المحررون دوماً يبدؤون بالأمة تغييراً ثم ينتقلون إلى فلسطين تحريراً، والمفسدون دوما ًيبدؤون بالأمة أولاً بالتدمير لأنها قوة في التاريخ قادرة على تغيير الموازين ومحضن خروج المنهاج النبوي الذي تخشى انبعاثه قوى “الجيتو”.
التلمود الفاشل والمنهاج الزاحف
إذن “حاخامات الجيتو” صدقوا في رؤيتهم الخبيثة واستشرافهم للخطر وهو مشروع علماء التغيير وانبعاث أمة، وفكرهم عميق لأنه يرصد المهدد الخطير على الاستكبار العالمي والصهيوني، وهو مشروع العلماء وورثة الأنبياء المتجذر في الأمة.
إذن المشروع الصهيوني وصولاً إلى “صفقة القرن” والدمج الكامل هو المشروع الحقيقي لتنزيل مخطط “الجيتو والتلمود”، بدءاً بتقويض وظيفة العلماء ومشروع العلماء، وحبسه في السجون وحصاره لمنعه من وصوله إلى الشعوب العربية والإسلامية التي تنتظر من يحرر نفسها وعقلها وحركتها.
لذلك، حين رأيت “صفقة القرن” أخرجت الأنظمة العربية بتطبيع كامل لتصفية العلماء والجمعيات والحركات الإسلامية، فإني استبشرت خيراً لأن التكالب العالمي له تقارير بقوة قادمة وخيرية تتحرك في الأمة، وتحركها بركة فلسطين والقدس وتحركها نظرة العلماء وأعمالهم نحو تحرير كامل للشعوب وفلسطين.
أخرجوا مشروعهم الكامل بالتطبيع الكامل ثم الدمج الكامل؛ لأن في قدر الله هناك مشروعاً نبوياً كاملاً يزحف ويبني ويصنع في محاضن الذكر والقرآن والتربية والعلم والفكر والعمل.
انظر من فوق
في المقابل، من لا يرصد سياق تنزيل الصفقات الصهيونية رفقة تطبيع كامل لتصفية ورثة الأمة والأنبياء، فإنه سيسقط في نظرة اليأس والإحباط، ويزل في ادعاءات المطبعين الذين يرفعون كفة العلو والكيان الصهيوني إلى فوق وتفوق، في حين الاستكبار الصهيوني والغربي في زلات وأزمات وهزائم، فإذا رغبنا النظر إلى الأمور، فالأولى النظر من الأعالي لا من سفاسف مواقع التواصل الاجتماعي والشارع وفكر المطبعين، كانت النبوة توصي دوماً بالمعالي في كل شيء والنظر من رؤية عالية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ مَعاليَ الأُمورِ، وأَشرافَها، ويَكرَهُ سَفْسافَها” (صحيح الجامع).
ــــــــــــــ
* كاتب مغربي.