أكد المفكر الإسلامي د. طارق السويدان أن ظهور الحركة الإسلامية بعد سقوط الخلافة الإسلامية كان يمثل تهديداً للكيان الصهيوني الذي كان مزمعاً ظهوره حينها، وكانت تهدد أنظمة الاستبداد، وتهدد الحضارة الغربية كلها بأنها البديل لهذه الحضارة؛ لذا تكالبت عليها الدنيا.
لكنه أكد أنه مع ذلك ومع تعلُّق الشعوب بالإسلام، ما زالت الحركة الإسلامية رغم كل هذا الضغط صامدة وثابتة.
وأشار، في حواره مع «المجتمع»، أنه إن كان الإسلاميون خسروا السياسة في بعض المجتمعات بسبب تغييبهم، فإن هذه المجتمعات هي التي خسرت أكثر؛ حيث إن الجهد المجتمعي للإسلاميين يصل إلى 95% مقابل 5% للسياسة.
بداية، نتشرف بأن تكون «المجتمع» اليوم في ضيافة المفكر د. طارق السويدان، حياكم الله.
– الشرف لي، وشكراً لـ«المجتمع» التي ربتنا ونحن صغار، وما زالت تربي الأجيال؛ فهي أبرز مجلة إسلامية في العالم الإسلامي كله، فشكراً لكم على هذه الدعوة الكريمة.
بعد سقوط الخلافة، ظهر الكثير من الحركات الإسلامية، وشاهدنا هجوماً على هذه الحركات منذ بدايتها من قبل القوى الغربية وبعض الأنظمة؛ فلماذا هذا الهجوم الشديد؟ هل هو خوف من عودة الخلافة؟
– ليس خوفاً من عودة الخلافة فقط، بل من الإسلام نفسه؛ فهو تحدٍّ حضاري وليس فقط تحدياً سياسياً، اليوم الغرب يعتبرون أنفسهم هم المرجع لكل البشر، ورأينا هذا مثلاً في أثناء المونديال في قطر، حيث إنهم يريدون أن يفرضوا حتى أخلاقهم على الدول التي تستضيف المونديال، والحمد لله أن قطر كان لها هذا الموقف المشرف في مقاومة هذه المسألة، والإصرار على قيمنا وأخلاقنا.
ونحن نقول لهم: أنتم لستم المرجع، نحن نعتبر أن الإسلام هو المرجع؛ فهو الذي سيسود الدنيا كلها وسيحكمها بالأخلاق التي دمرتموها أنتم، فهذا تحدٍّ وصراع حضاري.
هذا جانب، أيضاً في فترة ما بعد سقوط الخلافة كان التمهيد لظهور الصهيونية، وكان أكبر تحدٍّ للوجود الصهيوني كله هو الحركة الإسلامية، فالدول والحكومات الهزيلة انبطحت أمام الكيان الصهيوني، وهي ليست تهديداً له؛ فالمهدد الحقيقي للكيان الصهيوني هو الحركة الإسلامية، هذه هي الحقيقة.
فإذن، الحركة الإسلامية تهدد الكيان الصهيوني، وتهدد أنظمة الاستبداد، وتهدد الحضارة الغربية كلها بأنها البديل لهذه الحضارة، هذا التهديد الضخم طبعاً كان لا ينبغي أن يمر بسلام؛ ولذلك تكالبت عليها الدنيا، ومع ذلك، وهذا من فضل الله عليها، ومع تعلُّق الشعوب بالإسلام؛ ما زالت الحركة الإسلامية رغم كل هذا الضغط صامدة وثابتة، ولم تغيِّر مبادئها أو مواقفها، وظلت تتحدى الصهاينة، وتتحدى الغرب وتغيِّر في الأمة تغييراً جذرياً إلى اليوم.
نتخيل لو أن الحركة الإسلامية تم دعمها من قبل الأنظمة التي يفترض أن تدعمها؛ لأن هذه الحركات ما جاءت لتهديد هذه الأنظمة، إنما تمثل تهديداً للأنظمة الاستبدادية.
فإذا أنتم مستبدون فسنبقى شوكة في حلوقكم، وإذا أقمتم العدل فسنكون خدماً عندكم، لكن هذه المعادلة لم تُرضِ الأنظمة الاستبدادية، وحاولت بكل جهدها أن تقضي على الحركة الإسلامية، من خلال السجون والقتل والتشويه والإعلام المضاد وغيره، ومع ذلك فإن الحركة ما زالت صامدة، وستظل صامدة بعد توفيق الله تعالى وبجهود أبنائها المخلصين.
إذن، ترون أنه رغم الهجوم الشديد على التيارات الإسلامية، فإنها في تنامٍ؛ فأين السر في هذا؟
– السر ليس في الحركة الإسلامية، وليس حتى في الأنظمة التي تهاجم الحراك الإسلامي، إنما السر الحقيقي أن أمتنا تحب الإسلام، وترتبط به.
هل هذا ارتباط روحي؟
– ليس فقط روحياً، بل ارتباط وجودي؛ فأمتنا تحب الإسلام، وتحب الرسول صلى الله عليه وسلم، الناس حتى الفاسد منها يحترم العلماء ويحترم من يريد الدين ويحترم المسجد، وأمتنا تربت على هذا، ولا يمكن تغييرها، وهذا عكس الشعوب الغربية التي أثبتت الإحصاءات في فرنسا، مثلاً، أن الذين ذكروا أنهم يحبون الدين 28%، وفي بريطانيا 31%، هؤلاء قالوا: إنهم يحبون الدين وليس شرطاً أن يكونوا ملتزمين به.
فأمتنا تحب الإسلام، فلما تأتي حركة إسلامية لا تكتفي بالدعوة إلى الإسلام؛ بل تقدم لهم خدمات إغاثية وتربوية ودعوية؛ فطبعاً الناس يحبونها ويتعلقون بها.
ولذلك، ففي مصر، مثلاً، بعد «الربيع العربي» حدثت فيها 5 استحقاقات انتخابية، فلما كان هناك انتخاب حر فاز فيها «الإسلاميون» كلها، فقوة الحركة الإسلامية ليست بسبب جهودها أو بسبب ضعف أعدائها؛ بل قوتها الحقيقية لأن الناس يحبون الإسلام، ويحبون من يدعو إليه.
وهذا يقودنا إلى السؤال المهم: ما أثر تغييب الإسلاميين عن المجتمع بصفة عامة؟ وهل المجتمع في احتياج لهم؟
– النتائج واضحة جداً؛ يعني في مصر، مثلاً، 18 ألف جمعية خيرية تم منعها، هؤلاء الذين يشتغلون مع الأيتام، وخدمات التعليم، والعمل الاجتماعي، وإصلاح الأسرة إذا فسدت أوضاعها، وتربية الشباب، ومقاومة المخدرات.. هذا كله لم يعد موجوداً.
والنتيجة النهائية أن الناس وضعهم الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي أسوأ، وانتشار الفساد والمخدرات أكبر، وانتشار الطلاق والمشكلات الاجتماعية أبرز، وقِسْ على هذا كل المجالات.
فالناس يقولون: إن الإسلاميين خسروا الجانب السياسي، صحيح أنهم خسروا ذلك، لكن الأمة خسرت كل هذه المجالات بخسارة الإسلاميين.
فالعمل السياسي لا يشكل عند الإسلاميين أكثر من 5%، و95% من عمل الحركة الإسلامية عمل مجتمعي.
ولذلك، أحسَنَ من اختار اسم «المجتمع» لمجلتكم؛ لأن العمل المجتمعي هو الأساس، وهذا تجده في الكويت، حيث الاهتمام بالعمل الخيري والاجتماعي ومحاربة المخدرات والجهود المبذولة في إصلاح التعليم وتطويره.. هذا يشكل 95% من عمل الإسلاميين.
فلما غيَّبت بعض الدول الإسلاميين -ليس كلها والحمد لله- ومنعت أي عمل إسلامي، فالحقيقة الشعب خسر 95% من الجهود التي كانت تخدمه؛ فهذه هي المشكلة التي نتجت عن تغييب الإسلاميين.
والجانب السياسي يذهب ويأتي، وعلى الإسلاميين أيضاً أن يدركوا أن السياسة آخر المعادلة وليس أولها، يعني هي النتيجة؛ فعندما نغيِّر المجتمع سيحكم الإسلام، لكن بعض الناس مستعجلون يريدون أن يحكموا بالإسلام قبل أن يتغير المجتمع؛ فالعمل يجب أن يكون متراكباً؛ لا تنظروا إلى الفشل والنجاح على أنه نجاح وفشل السياسة؛ السياسة هي آخر شيء.
بصفتكم مفكراً ومن قادة العمل الإسلامي، هل للإسلاميين دور في تغييبهم؟
– هذا سؤال مهم، لكنْ هناك سؤال أهم قبل هذا، وهو: هل يمكن أن يقوم عمل إسلامي بدون عمل سياسي؟ والإجابة أنه ممكن، لكن ستصبح حركة مثل جماعة التبليغ؛ دعوة وتربية فقط، وليس هناك تغيير حقيقي للمجتمع.
سيكون كأن الإسلاميين رضوا بأن يحكم المستبدون، وينتشر الفساد المالي؛ لأنه ليس لهم شغل بالسياسة، والسياسة هي التي تحكم، وهي التي تغيِّر القوانين، وتنشر الفساد المالي.. يعني لماذا تطورت تركيا؟ السبب هو أنه حينما جاء حزب «العدالة والتنمية» أوقف معظم الفساد المالي، فاستطاعوا في إسطنبول فقط توفير 20 مليار دولار في سنة واحدة بسبب إيقاف الفساد! فأين ذهبت هذه الأموال؟ ذهبت للتعليم وتنمية المجتمع؛ فلهذا كله هل يطالَب الإسلاميون بألا يبذلوا أي جهد في إصلاح السياسة والاقتصاد؟! فلو فعلوا هذا سيكونون حركة ليس لها شوكة، كما يقولون.
إذن، فلماذا لم ينجح الإسلاميون في هذا؟ الخطأ في ظني أننا عملنا كل هذا تحت مظلة واحدة؛ فيجب في المستقبل ألا يشتغل الإسلاميون تحت مظلة واحدة؛ يجب أن يتوزع الجهد، فالذي يعمل في العمل الخيري لا يشتغل في السياسة، فهناك من يدير الفكر، ومن يدير التربية، ومن يدير الاقتصاد، ومن يدير السياسة.. يجب الفصل بين كل هذه العمليات وألا تكون عملية واحدة، وهذا لا يتنافى مع شمولية الإسلام؛ فالإسلام نظام شامل للحياة، لكن ليس بالضرورة أن منظمة واحدة تدير كل الحياة، فالإسلاميون إذا أرادوا النجاح فعليهم أن يفصلوا أعمالهم في مؤسسات مستقلة.
ألا يوجد نموذج الآن في الواقع الإسلامي يمكن الإشارة إليه في المؤسسية؟
– طبعاً، تجربة تركيا واضحة جداً؛ مثلاً حزب العدالة والتنمية هو الذي يدير تركيا، ولديه أعضاء ليسوا ملتزمين إسلامياً؛ فقد استطاعوا أن يكسبوا المجتمع.
وأيضاً هذا الحزب لا يشتغل دعوة بشكل مباشر؛ ففيه مؤسسات دعوية، وأخرى للأوقاف، والتعليم.. فإذا أردت العمل بالسياسة مارس السياسة، ولا تمارس معها عملاً خيرياً، وآخر إعلامياً، أو دعوياً؛ بل وزِّع الجهد، وهذا ينفعك من ناحيتين؛ الأولى أنه لا يمكن ضرب هذا العمل المؤسسي بضربة واحدة، مثل ما حدث في بعض الدول، والثانية أن كل مؤسسة ستنمو وتتحسن.
ظهرت في مجتمعاتنا بعض الظواهر الغربية والغريبة علينا مثل الإلحاد والشذوذ.. وغيرهما؛ فهل هذا نتيجة تغييب الإسلاميين؟ وهل عليهم دور الآن، أم أنهم معذورون بتحجيم حركتهم؟
– لي تعليقان رئيسان على هذا السؤال؛ أول شيء أن هذه الأمور ليست ظواهر؛ فحتى نسمي شيئاً «ظاهرة» يجب أن ينتشر بين 10% من أفراد المجتمع أو أكثر، وما نتكلم عنه سواء الشذوذ أو الإلحاد لم تصل حتى 1% في كل مجتمعاتنا، حتى المجتمعات العلمانية تماماً والمغيبة؛ فهي لها بروز إعلامي لأنها غريبة على مجتمعاتنا؛ يعني لو أن امرأة تركت الحجاب كل الناس يتكلمون في ظاهرة ترك الحجاب، لكن عندما تتحجب 1000 امرأة لا يتكلم أحد!
الأمر الثاني الذي يجب أن يكون واضحاً أن هذه الأمور ليست فقط نتائج لتغييب الإسلاميين؛ وإنما أحد أسبابها، فنحن لا ننسب الفضل كله لأنفسنا، ونبين الأمر كأنه لو كنا موجودين لم تظهر هذه الأمور، ولما ذهبنا انتشرت.
بل أصل المشكلة هو الإعلام الفاسد القوي والمموَّل في مواجهة الإعلام الإسلامي المحدود خاصة في الانتشار بين الناس؛ إعلام فاسد، مثل «نتفليكس» وغيرها، ينشر هذه المظاهر ويدعمها، وإمكاناته كبيرة، ونحن إعلام قيمي يرفض هذه المظاهر لكن إمكاناتنا ضعيفة حتى في أجواء الحرية؛ فما بالك بأجواء الاستبداد؟
والمصدر الثاني لهذه المشكلة هو التعليم، والإسلاميون يعانون من ضعف فيه أيضاً؛ فمثلاً الكويت بلد فيه حرية، لكن كم مدرسة يملكها الإسلاميون أو يديرونها؟ عدد محدود جداً بالمقارنة مع عدد المدارس الخاصة، ناهيك عن المدارس الحكومية، فالإسلاميون لم يصلوا في الإعلام في أي بلد إلا لـ2% فقط، وفي التعليم 5%؛ فكيف سيمنعونها؟!
إذن، هذه ظواهر لم يكن الإسلاميون سببها، ولا عدم وجودهم سبب ظهورها، هذه لها مصادر رئيسة عالمية ومحلية.
والآن، كيف يمكن مواجهتها؟
– لا يمكن مواجهتها بالطرق التقليدية التي يمارسها الإسلاميون، بل لا بد من الإبداع والاهتمام بالإعلام والفن والدراما.
هل يمتلك الإسلاميون الخبرة والمهارة الكافية لإدارة بعض مؤسسات الحكم في العالم الإسلامي؟
– دعني أسأل سؤالاً بطريقة عكسية: هل يوجد عند غير الإسلاميين هذه المهارة العالية لإدارة دولة؟ قريباً كنت مع أحد الوزراء الذي تسلم عمله مؤخراً، وعلاقتي الشخصية به وثيقة جداً، وهو لا يحب الإسلاميين، لكنه يحبني وصداقته معي قديمة من أيام الثانوية، فقلت له: عندي لك نصيحة، قال لي: ما هي؟ قلت له: أنا أعرف أنك لا تحب الإسلاميين، لكن نصيحتي ألا تستثنيهم من تولي المناصب عندك في الوزارة؛ ففيهم كفاءات، فضحك، وقال لي: والله يا أبا محمد أنت تعرفني، وأنا أعرفك، ووالله بحثت عن غيرهم فما وجدت!
فالإسلاميون اليوم لديهم كفاءات في الجانب السياسي، والتدريبي، ومنهم أفضل المدربين على مستوى العالم العربي، وعندهم كفاءات في التخطيط من أعلى المستويات، وفي التعليم كذلك.
وأنا أفهم الإسلاميين فهماً غير تقليدي؛ فالناس يفهمون الإسلاميين على أنهم المنخرطون في الحركة الإسلامية، لا.. أنا أفهم الإسلامي هو كل من يعتبر الإسلام قيمه وهدفه؛ فعندما يأتي وكيل وزارة بإحدى الدول العربية، وهو يحمل القيم الإسلامية وهدفه أن تتطور بلاده ويحمي الإسلام ويدعو إليه، هذا بالنسبة لي إسلامي.
إذا الجواب عن السؤال: هل يقدر الإسلاميون؟ سؤال أكبر من هذا: هل في غيرهم يقدر؟ أتحدى أن تكون هناك حركة في العالم العربي كله عندها الطاقات الموجودة عند الحركة الإسلامية، أتحدى أن يكون عند العلمانيين أو اليساريين ما عند الإسلاميين.
ما رأيك في إتاحة الفرصة للشباب في إدارة العمل الإسلامي على حساب كبار السن؟
– أعتقد أنه لا بد من التكامل بين الشباب والخبرة، فهذه مسألة أساسية، وأدعو ألا يستمر أحد في نفس المنصب أكثر من 8 سنوات على دورتين، فالشباب ليس عندهم الخبرة الكافية أن يديروا أعمالاً ضخمة، فهم يحتاجون هذا التكامل، لكن في الوقت نفسه الكبار الذين ظلوا فترة طويلة في نفس العمل ولم يبدعوا عليهم أن يتنحوا؛ فالذي عنده الخبرة والإبداع أهلاً وسهلاً يدير، فمعظم الكبار يمتلكون الخبرة لكنهم يفتقدون الإبداع، ومعظم الشباب عندهم الإبداع لكنهم يفتقدون الخبرة؛ فالحل الأمثل هو التكامل بين خبرة الكبار وإبداع الشباب؛ بذلك ينجح العمل ويخرج بأفضل صورة.