الابتزاز الإلكتروني سلوك غير سوي، يعود بأثر سلبي على الفرد والأسرة والمجتمع؛ حيث يُعدُّ مؤشراً خطيراً على تغيُّر القيم وانحدارها، وله انعكاسات على نفسية الضحية واستقرار أسرتها؛ ما يفضي إلى نشر الجريمة وهدم شخصيات الضحايا، ونشر الأمراض النفسية والجنسية، وإشاعة الفوضى والخوف والرعب في المجتمع.
وفي هذا السياق، أكد علماء نفس واجتماع، في تصريحات لـ«المجتمع»، أن «الابتزاز» لا يُعد ظاهرة جديدة؛ بل ظاهرة موجودة من العصور القديمة وفي مختلف دول العالم، لكن مع التطورات الحاصلة في التكنولوجيا وفي العالم الرقمي، اتخذ منحى آخر مع ما يترتب على ذلك من آثار نفسية وصحية.
بداية، يقول أستاذ علم النفس بجامعة الكويت سعود الغانم: جريمة الابتزاز الإلكتروني من أخطر الجرائم؛ لما تسببه للأفراد في المجتمع من عواقب وخيمة؛ كالضغط النفسي، وتدمير الصحة العقلية والبدنية للضحية، والعزلة الاجتماعية، وحتى الانتحار.
وأضاف أن الابتزاز الإلكتروني جريمة قديمة، وليست مستحدثة، وقد تنوعت وسائلها عبر العصور المختلفة، لكن مع التقدم التكنولوجي أصبحت أكثر انتشاراً، مشيراً إلى أن الأفراد والجهات التي تمارس الابتزاز الإلكتروني تعمل وفق نهج محدد، يعتمد على الابتزاز العاطفي بتعميق إحساس الضحية بالضعف وقلة الحيلة والذنب والخزي ثم اللجوء للتهديد والتخويف.
وأوضح أستاذ علم النفس أن أبرز مخاطر الابتزاز الإلكتروني على المجتمع يتمثل في انعدام الثقة، والخوف الدائم، والقلق من حصول الابتزاز للشخص، وهو ما يشيع في المجتمع عدم الأمان، وانخفاض الثقة في الآخرين بشكل كبير، مشيراً إلى أن هناك العديد من الآثار النفسية التي تحدث لمن يتعرضون لهذا الأمر، منها الانطواء والانعزال، والابتعاد عن التفاعل مع الآخرين، وعدم الأمان، وتدني الثقة بالنفس، مشيراً إلى أنه ينبغي التعامل مع الأعراض النفسية التي يعاني منها الضحايا بجدِّية، والتنبه إلى أهمية انتشالهم من عزلتهم، وتقديم الدعم والمساعدة.
وبيَّن الغانم أن هناك العديد من التخوفات التي تصاحب الابتزاز الإلكتروني، منها: التقوقع على النفس، وزيادة الشكوك في الآخرين؛ ما يساهم في هدم جسور التواصل بين الأشخاص، ومن ثم تصبح وسائل التواصل الاجتماعي عوامل هدم للمجتمع، مشيراً إلى أن أنواع الابتزاز الإلكتروني مختلفة، فهناك ابتزاز مادي بطلب مبالغ مالية من الضحية مقابل عدم فضحه وإفشاء أسراره، ومنها ابتزاز جسدي أو ابتزاز منفعة بإرغام الضحية على القيام بخدمات أخرى غير مشروعة أو مشروعة، مقابل عدم بثِّ صور أو بيانات خاصة، خاصة الأشخاص ذوي المناصب الحساسة وصانعي القرار.
وأضاف الغانم أن أسباب الابتزاز الإلكتروني متنوعة، منها ضعف الوازع الديني، أو أصدقاء السوء؛ فهما من الأسباب الأساسية التي قد تؤدي إلى نشوء هذه الظاهرة، والاستعمال الخاطئ لوسائل التواصل الاجتماعي وقنوات الدردشة غير الآمنة، وإرسال الصور الخاصة ومقاطع الفيديو التي تخص الأفراد، التي قد تقع في أيدي أشخاص مبتزِّين يقومون باستغلاله من أجل مكاسب مادية، أو أي مآرب أخرى، أو نشر صور واضحة على مواقع التواصل الاجتماعي.
ووجه الغانم نصيحته بضرورة اتباع الأمور الأمنية الإلكترونية لحماية الحسابات الشخصية، وعدم ترك المعلومات متاحة لأي شخص، وعدم وضع الصور الخاصة والواضحة على مواقع التواصل الاجتماعي، وتجنب العلاقات غير الموثوقة مع الآخرين.
ظاهرة قديمة
بدوره، قال أستاذ علم النفس في جامعة الكويت خضر البارون: على مر العصور، كانت لدى الإنسان الرغبة في التلصص والتجسس على تفاصيل حياة الآخرين، ويصل الأمر بالبعض إلى أن تصبح هذه الرغبة مَرَضاً، وفضائح وسائل التواصل المختلفة سواء الهاتف، أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة تغذِّي هذا الشعور المرضي لديهم.
وبيّن البارون أنه لا يعتبر الابتزاز ظاهرة جديدة، بل هي موجودة من العصور القديمة، وفي مختلف دول العالم، إنما مع التطورات الحاصلة في التكنولوجيا وفي العالم الرقمي، اتخذت منحى آخر مع ظهور الابتزاز الإلكتروني مع ما يترتب على ذلك من آثار نفسية وصحية على الضحية ومحيطها، قد تكون أكثر صعوبة بعدُ من تلك الناتجة عن التعرض للابتزاز بمفهومه التقليدي.
وأضاف البارون: مع الانتشار الحاصل لوسائل التواصل الاجتماعي، يبدو واضحاً أن الابتزاز الإلكتروني أخذ في الانتشار أكثر فأكثر، بحيث بلغت الأرقام مستويات تدعو إلى دق ناقوس الخطر، وهو يطال المراهقين بشكل خاص؛ فلا يحتاج المبتز عندها إلا إلى الجهاز الإلكتروني والإنترنت ليقوم بهذه الأفعال.
وأشار البارون إلى أن من يلجؤون إلى هذا الأمر دائماً ما يقومون بإنشاء حسابات وهمية للقيام بهذه الجريمة، مطالباً بضرورة إغلاق الحسابات الوهمية، والتعامل مع أي إساءة تصدر بحق أي مجموعة من الناس أو جهات حكومية من خلال جزاءات مشددة تهدد مَنْ يقف وراء تلك الإساءات.
وطالب البارون بأنه عند الحديث في وسائل التواصل الاجتماعي يجب أن يكون الحديث بلغة ومفردات محترمة، وعلى المتلقِّين أن يدقِّقوا فيما يتلقون من خلال مواقع التواصل الاجتماعي؛ فهذا الشخص الوهمي لم يُخفِ شخصيته إلا لأنه خائف، أو يعمل لمصلحة جهات أخرى، ومن ثم يتعين التحقق من هوية مَنْ نقرأ له.
وأكد البارون ضرورة تقديم المساعدة النفسية الصحيحة للضحية في الوقت المناسب؛ حتى تتخطى هذه الأزمة التي تمر بها بأفضل ما يكون، ومن أهم الآثار أيضاً تراجع مستوى الصحة النفسية، لا سيما في حالات الابتزاز بصور خاصة، مؤكداً أن مثل هذه الأمور من الممكن أن تؤدي إلى انهيار العلاقات الاجتماعية والتفكك الأسري وتشويه السمعة.
وقال البارون: على الجهات المختصة مواجهة هذا الخطر بخطوتين حاسمتين؛ تتمثل الأولى في مراقبة الحسابات المسيئة، وسرعة ضبطها وملاحقتها، خاصة أنها تخدم أجندات هدفها ضرب الاستقرار المجتمعي، والخطوة الثانية: إبلاغ نيابة الجرائم الإلكترونية، مشيراً إلى أن قانون الجرائم الإلكترونية حدد عقوبات لمن يتجاوزون في أقوالهم أو أفعالهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وحدّد العديد من العقوبات على من يقومون بالإساءة أو التجريح لسمعة أو كرامة أفراد أو فئات في البلاد.
واختتم البارون قائلاً: على الضحية التعاون مع وحدة الجرائم الإلكترونية، ومع الموثوقين في هذا المجال، ويجب عدم السكوت عن أي تهديد أو ابتزاز، وعدم الخضوع لأي استغلال مادي أو معنوي؛ فلا خوف من التبليغِ وطلب المساعدة.
3 أسباب
أما الباحث الاجتماعي همام طوالبة، فأكد أن أسباب تنامي ظاهرة الابتزاز الإلكتروني في الآونة الأخيرة تعود إلى ثلاثة أسباب رئيسة؛ هي: انتشار وسائل التواصل الاجتماعي بين الناس؛ ما أدى إلى سهولة وصول المجرمين إلى ضحاياهم في هذا الفضاء المفتوح، ومشاركة كثير من الناس لمشاعرهم وصورهم ومقاطعهم ومعلوماتهم الشخصية عبر هذه الوسائل، دون وعي بخطورة ذلك ومدى خصوصيته؛ ما وفر مادة جاهزة للمبتزِّين يسهل استغلالها، بالإضافة إلى أن كثيراً من رواد مواقع التواصل الاجتماعي يساهمون بالفضائح والإشاعات في تعميق هذه الأزمة أيضاً، مع أننا أُمِرْنا شرعاً بالتثبت من الأخبار، وستر المذنبين، وعدم إعانة الشيطان عليهم.
وتابع طوالبة: عند البحث والتأمل نجد أن الابتزاز الإلكتروني لا يكون فقط نتيجة أفعال خاطئة وقعت من الضحية فاستخدمها المبتزون؛ بل قد يكون نتيجة عملية اختراق مقصود لجهاز الضحية أو صفحته على الإنترنت، وقد يكون نتيجة فبركة إلكترونية لصور عادية منشورة في الفضاء العام، مؤكداً أن هذه الظاهرة الخطيرة تهدد سلم المجتمع واستقراره، كما تهدد أمن الأفراد وسلامتهم؛ لأنها تحول الضحايا إلى أدوات للجريمة داخل المجتمعات، وتدخلهم في صراع مع الذات، يفقدهم توازنهم النفسي، وقد يصل ببعضهم إلى الاكتئاب والانتحار.
وعن كيفية حماية المجتمع من هذه الظاهر، قال طوالبة: حتى نحمي مجتمعاتنا من هذه الظاهرة الخطيرة لا بد أولاً وقبل كل شيء من تعزيز الوعي وقيم الأخلاق داخلها، خاصة الوعي بطبيعة هذه المواقع الإلكترونية، التي مهما قيل إنها تراعي الخصوصية، فهي عرضة للاختراق والسرقة، خاصة إذا اتصلت بالشبكة العنكبوتية، والوعي بطبيعة النفس البشرية، وكيفية إدارة مشاعرها وشهواتها وانفعالاتها، حتى لا تجرنا إلى ما نخجل منه، ويتوج ذلك كله بالقيم الأخلاقية التي تعزز الرقابة الداخلية والخوف من الله تعالى في الخلوة والجلوة.
وعن النصيحة التي يقدمها في حالة وقوع أحد الأشخاص في الابتزاز الإلكتروني قال الباحث الاجتماعي: الحكمة والعقلانية هما اللتان يجب أن تحكما مثل هذا الموقف؛ الحكمة التي تقتضي ألا يستجيب الإنسان لطلبات المبتزين مهما كانت؛ لأنها لن تتوقف عند حد، وأن يحتفظ بكل رسائلهم؛ ليحفظ حقَّه القانوني في محاسبتهم، وأن يستشير مَن يثق به من أهل العلم والخبرة، ويتوجه إلى الجهات المختصة بالجرائم الإلكترونية، والله تعالى يحفظنا وإياكم بمنه وكرمه.
خسارة الحياة الزوجية
من جانبها، قالت المستشارة الأسرية د. بيان فخري: إن أفعال الناس في العالم الافتراضي هي نفسها أفعالهم في الواقع الاجتماعي؛ مع اختلاف في الوسائل والأساليب التي هي رقمية غير مباشرة في الافتراضي، ومباشرة في الواقعي، والشكلان من الفعل مصدرهما واحد، وهو المعرفة والاتجاهات المتكونة من القيم والمعتقدات والمعايير المسؤولة عن تشكيل السلوك الذي يُظهره الفاعلون في تفاعلهم الواقعي والافتراضي.
والفاعل الاجتماعي هو الإنسان ذاته في العالمين؛ فمن أساء السلوك في واقعه الاجتماعي هو ذاته الذي سيسيء السلوك في الافتراضي، عندما تُتاح له الفرصة والظروف المناسبة للانحراف عن المعايير بغياب ما يردعه في خلوته الرقمية، ولأن العالم الافتراضي يتسم بخصائص الإتاحة والتوفر، والسهولة والرخص، والسرية والخصوصية؛ فإنه يكشف صدق معايير البشر وقيمهم، ويختبر قدرتهم على ممارسة الضبط الذاتي لسلوكهم عند غياب الرقابة والضبط الخارجيين.
وأوضحت فخري أن ظاهرة الابتزاز الإلكتروني الأخلاقية تعتبر أحد أشكال السلوك المنحرف في العالم الافتراضي؛ نتيجة لغياب الرقابة الخارجية، وضعف الردع الذاتي والرقابة والضبط الذاتي للفرد المنحرف، وتعكس حقيقة الحالة القيمية العامة للناس في المجتمعات الرقمية بكل تجلياتها.
ومن ضحايا هذه الظاهرة –حسب المستشارة الأسرية- بعض الأزواج الذين يدفعون بعلاقاتهم الزوجية ثمناً لانحراف ممارستهم الإلكترونية، ونتيجة لارتكابهم تجاوزات أخلاقية عبر تواصلهم مع غرباء من الجنس الآخر برسائل وصور، وأحياناً فيديوهات غير لائقة، ومتناقضة مع الأخلاق والأعراف الاجتماعية الصحيحة؛ ظناً منهم أنه مجرد عالم وهمي، يعبرون فيه عن شهواتهم دون وعي كاف بحقيقة العالم الافتراضي الرقمي وأبعاده؛ ما يوقعهم في عمليات ابتزاز تخسرهم علاقاتهم الزوجية، وتودي بعلاقاتهم الأسرية ثمناً لشهوة اجتازت الفضاء الوهمي، واخترقت الواقع لتفكك البناء الأسري، وتقطع الروابط الاجتماعية، وتثير التنازع والصراع بممارسة غاب فيها العقل والدين، وحضرت الشهوة، وتمادت فيها الغفلة، وأوقعت صاحبها ضحية لعملية ابتزاز إلكتروني أخلاقي.